لا تكتفي الرّواية بكونها الجنس الأدبيّ الأكثر تأقلمًا مع تحوّلات الواقع، وما يطرأ عليه من تغيّرات، بل هي تمثّل المرآة الأكثر صفاء والأكثر جرأة في رصد ونقل تحوّلات هذا الواقع، وإعادة كتابة تاريخه وقضاياه الكبرى كتابة جماليّة، قوامها السّرد التخييلي الذي يلتقط التفاصيل الصغيرة، ولا يُغفل الأحداث التي قد تبدو عابرة وهامشيّة؛ فتعيد تشكيل ملامح هذا الواقع من خلال تفكيك الذّاكرة الجماعيّة المسطّرة سلفًا، وسرد ذاكرة الأفراد المتحرّرة من كل الضّوابط، مستثمرة في ذلك الحروب الصغيرة، والهزائم الذاتيّة، والأحلام البسيطة، والثورات الداخليّة، والاغتراب الشخصي.
في هذا المنحى تتنزل رواية "دفاتر الجيلاني ولد حمد"، للكاتب التونسي صحبي كرعاني، الصادرة عن دار أطراس للنشر، والحائزة جائزة الكومار الذهبي لسنة 2024.
يدخلنا صحبي كرعاني من خلال أولى رواياته، خلف بطله الجيلاني ولد حمد إلى قلب باريس، ومناطقهم الملغومة بصراعاتهم اليومية من أجل الاندماج في معترك الكائن المستهلك داخل دوامة إثبات الوجود
الكتابة الاسترجاعية
"لن يكون هناك أدنى مكان للخيال فيما سأدوّنه في هذا الدفتر؛ فكل ما سأخطّه حقيقي، ومأخوذ من مخزون الذكريات".. بهذه الجملة، يوهمنا الكاتب التونسي صحبي كرعاني، على لسان بطله، السارد الجيلاني بن حسونة بن عثمان بن العايش بن عبيد بن عمر ولد حمد، بأننا أمام سيرة حقيقية ولا مكان فيها للخيال لمهاجر تونسي، ما يزال تائهًا – وهو في سجن لوس بفرنسا- في بحثه عن أصله؛ أهو من داروين الإنجليزي أم من المؤدب العربي؟
وما يزال سابحًا في أحوال الوسط التونسي وتفاصيل ناسه، وأحوال تونس في مطلع القرن التاسع عشر بنسق متدرج، تتقاطع فيه السير الذاتية لشخصيات الرواية مع التحولات الكبرى في تاريخ تونس إلى أواخر القرن العشرين.
ورغم أن الكاتب يورط القارئ في متاهة لانهائية من الشخصيات والأسماء على كامل عشرين فصلًا، فإن ذلك موظف بشكل منهجي لتتبع سيرة "أعجوبة الدهر الجيلاني ولد حمد"، أو الجيلاني الكوبوي، المتخبط بين الواقع والخيال، والمتوغل في أحلام اليقظة، وهو يسرد علينا زيجات وجنازات وصفقات بين أبناء العرش الواحد، حيث تنتصر المروءة والشهامة على الفقر وقلة ذات اليد، ويتتبّع تأقلمها أو نفورها من التقلبات والتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تطرأ على البلاد، بأسلوب الكتابة الاسترجاعية لزمنين، واحد بعيد يعود إلى قرون خلت، وثانٍ يعود إلى بدايات العقد التاسع من القرن العشرين، وتحديدًا إلى ربيع 1983.
يدخلنا أستاذ الرياضيات بجامعة "ليل" الفرنسية صحبي كرعاني من خلال أولى رواياته، التي نالت جائزة الكومار الذهبي لسنة 2024، خلف بطله الجيلاني ولد حمد إلى قلب باريس، وتحديدًا إلى أحياء المهاجرين ومناطقهم الملغومة بصراعاتهم اليومية من أجل الاندماج في معترك الكائن المستهلك داخل دوامة إثبات الوجود، حيث ترتفع الاختلافات الثقافية والحواجز النفسية، وأولها مع العقيد مارسيل ديفور.
وهنا يتغير نسق السرد من البطء إلى السرعة، وبالمثل يختفي المعجم البدوي القديم ليحل محله معجم عصري حديث، فيما تلبس شخصية الجيلاني جبّة المهاجر غير الشرعي.
غير أنّ صحبي كرعاني يعود بنا مع بداية الفصل الثامن إلى مناخات عين حمد وحياة عرشه، حيث تتناسل القصص والسير بشكل عنقودي، تتوالد فيها المسارات بعضها من بعض، وتتقاطع بينها الوشائج والمحن التي لا تنتهي.. بناء يشبه شكل الدّمية الروسيّة، ماتريوشكا؛ فالحكاية تولد من الحكاية، في توليد طبيعي سلس غير مركّب، حتى لكأنها كبة كتان يعبث بها قط نزق.
تمثل رواية "دفاتر الجيلاني ولد حمد" نموذجًا قويًا للرواية (المشهد)، تلك الرواية التي نُبصرها ونُشاهدها أكثر مما نقرؤها، إذ تغُوص عميقًا في بواطن الشخصيات، وتتوغّل فيما خفي داخلها من مشاعر وأحاسيس
لعبة الذاكرة والهوية
تنمو الحركة السرديّة في رواية الذاكرة، بين زمن تعلو فيه الحركة والفعل، وزمن آخر للتأمّل ومراجعة الذات في صمت، حيث تأخذ الذّاكرة وظيفة تجميع وتنظيم تفاصيلها، وعندما يكتمل المشهد نكتشف أن الأسماء تنفلت من كونها علامات لغوية عابرة في سياق سردي، لتحيلنا إلى شخصيات من لحم ودم، عاشت وتأقلمت مع متغيراتها، كل على طريقته، بين الانصهار وقبول الاحتواء، أو البقاء على الربوة والهامش.
فالشخصيات الكثيرة التي يوردها صحبي كرعاني في سياق روايته تتداخل وتتفاعل بشكل يخدم نمو السرد وتطوير الأحداث وتنويع التقاطعات، ما يمنح الرواية بُعدًا إثنوغرافيًا، يغوص في أعماق المجتمع التونسي، وفي طبيعة شخصيته الهامشية وسياقاتها "السوسيوثقافية" بما تحمله من عقد نفسية، وما تطرحه من تمثلات للعالم وللآخر.
تمثل رواية "دفاتر الجيلاني ولد حمد" نموذجًا قويًا للرواية (المشهد)، تلك الرواية التي نُبصرها ونُشاهدها أكثر مما نقرؤُها، إذ تغُوص عميقًا في بواطن الشخصيات، وتتوغّل فيما خفي داخلها من مشاعر وأحاسيس، ورغبات ونزوات وأسرار وعُقد مختلفة.
والرّاوي عليم بهذه البواطن، متتبّع لتقلّباتها ولحظات مدّها وجزرها، وخاصة منها نزعات الفرد وميولاته وتعقيداته النفسية، الباطن منها والظاهر، قضايا الجسد ورغباته واستيهاماته وتخييلاته، وما يكتنزه من رعب ومخاوف وأوجاع قلما يصرح بها للطبيعة البدوية الخام، التي لم تتلوّث بلوثة المدن.
ويستأنف مجددًا، بداية من الفصل الثالث عشر، مسيرة الجيلاني اليعسوب وقد أصبح ملاكمًا سريًا، يجني في الليلة الواحدة أكثر مما يكسبه من عمل أربعة أشهر في ورشة النجارة.. الجيلاني ولد حمد، ذلك الرجل الذي يقفز من الديك إلى الحمار، البائس الذي لم يتعلم قيم الجمهورية، يحمل على ظهره – قرابة القرن ونصف القرن من تاريخ عين حمد، وفي صدره – عقودًا من تاريخ فرنسا، وهو يعدو كأنه طفل هارب من الأشباح، ديدنه أن مهمة الإنسان في الأرض هي عشق الحكمة، وتفجير ينابيعها بالأسئلة الجدلية، وليس التنكر في عباءة سوداء والدفاع عن اللصوص.
لا تتوقّف الرواية عند كونها تلك المرآة الأكثر صفاء والأكثر جرأة، بل هي أيضًا تبدو الأكثر متعة؛ لأنها – بكل بساطة – محفّزة على الخيال، وعلى التحرّر من القيود
المرآة الأكثر جرأة
تذكرنا رواية "دفاتر الجيلاني ولد حمد" لصحبي كرعاني برواية "صمت الجبال" لشقيقه رضا كرعاني، لا من حيث المعجم اللغوي والشخصيات والأمكنة والنفس المحافظة فقط، بل أيضًا من حيث تحرك الرواية في فلك التّقاليد والعادات، والنّمط التقليديّ الذي يجب ألا نثور عليه، بل ننسجم معه وننخرط في قيمه، وذلك أيضًا في سياق الاعتناء التام بالعشيرة (المجتمع) مقابل الفرد في ذاته.
لا تتوقّف الرواية عند كونها تلك المرآة الأكثر صفاء والأكثر جرأة، بل هي أيضًا تبدو الأكثر متعة؛ لأنها – بكل بساطة – محفّزة على الخيال، وعلى التحرّر من القيود، فالإنسان بطبعه حكّاء يطلب الحكايات، يأنس لإيقاعها، ويتشبّث بغرابتها ويلاحق مغامرتها، ويصدّق ما تنجح في الإيهام به، في تواصل لا ينتهي، وهو ما نجح في تقديمه الكاتب التونسي صحبي كرعاني في منجزه السردي الأول "دفاتر الجيلاني ولد حمد".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.