لقد أصبحت الثقافة العربية وسائر الثقافات التقليدية عاجزة أمام الثقافة الأميركيّة، التي باتت مسلحة بوسائل وأدوات قادرة على اختراق الغرف المغلقة والأصقاع البعيدة بكل سهولة، فلا الحدود قادرة على صدها، ولا جدران الحماية تستطيع الوقوف في وجهها!. وتكاد تكون الآن ثقافة كونية شاملة بكل ما في الكلمة من معنى، بفضل ثورة الاتصالات التي نشهدها اليوم، وكذا الاتفاقيات الدولية في السياسة والثقافة والاقتصاد.
العولمة تقوم بشكل مباشر على الحضارة الغربية، التي توجهها المبادئ اللادينية الوضعية كما نعلم، والتي لا تقيم وزنًا لقضايا الإيمان بالخالق والنبوّات، وسائر الأمور الغيبية
وبما أن نزعة التمركز حول الذات تشكل نواة العقلية الغربية؛ فالغرب اليوم يسعى لإظهار قوته أمام العالم بكل السبل الممكنة، لذلك كان تاريخ علاقاته بالأمم والحضارات مروعًا للغاية، حينما أظهر سلوكًا استعماريًا متوحشًا، وحوّل ثقافته إلى ثقافة مهيمنة.
وتعد العولمة أشد أسلحة الأميركيين فتكًا، فهي تقتضي تعميم سيطرة قيم وعادات وثقافات العالم الغربي على بقية دول العالم، لا سيما النامية منها، بشكل يؤدي إلى خلط كافة الحضارات، وإذابة خصائص المجتمعات ونسف هوياتها، وتهميش عقائد الشعوب الدينية، من أجل تسييد الثقافة الرأسمالية وإعلائها.
وقد ارتبط ظهور العولمة بتفوق الدولة الأميركية المهيمنة جيوسياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وعلميًا، خلال مرحلة النصف الثاني من القرن العشرين، بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، عندما صُنع نظام عالمي جديد، وفُرضت ثقافة الأقطاب الاقتصادية العالمية الكبرى على باقي ثقافات المعمورة، تحت سيطرة الثقافة الأقوى؛ ثقافة الدولة الأميركية العظمى.
فالعولمة تقوم بشكل مباشر على الحضارة الغربية، التي توجهها المبادئ اللادينية الوضعية كما نعلم، والتي لا تقيم وزنًا لقضايا الإيمان بالخالق والنبوّات، وسائر الأمور الغيبية. كما أنها تعمل على إشاعة الحياة المادية والإلحادية عبر شبكاتها وأجهزتها العالمية، بأساليب ووسائل تقوم على الإغراء والخداع؛ بهدف التأثير في النفس الإنسانية، وتُفقد المرء كيانه وشخصيته، وعقله وقلبه وروحه، وتُفرغه من أصول الإيمان والأخلاق الحميدة.
ولقد أثرت العولمة الثقافية في مئات الملايين من المسلمين بصورة مباشرة أو غير مباشرة، خاصة الشباب منهم، حيث تم تغريب الشاب المسلم وعزله عن قضاياه وهمومه الإسلامية، وإدخال الضعف لديه، والتشكيك في جميع قناعاته الدينية، وهويته الثقافية، وجرّه نحو توافه الأمور التي تقتل الوقت، ما بات يعود عليه بالضرر البالغ في دينه وأخلاقه وسلوكه وحركته في الحياة.
وهذا الجانب تسهم فيه وسائل الاتصال الحديثة، التي تركز على الحملات الإعلانية المكثفة للسلع الغربية، المصحوبة بالثقافة الجنسية الغربية التي تخدش الحياء والمروءة والكرامة الإنسانية، وتربي الأجيال على عدم احترام ثوابت الأمة ورموزها، وتطبعه مع الزنا والشذوذ، وسائر الرذائل.
الغرب اليوم، يسعى من خلال العولمة الثقافية إلى تحطيم كل الثوابت الدينية والفكرية والأخلاقية، للوصول إلى بناء إنسان هامشي، دون جذور قوية ثابتة، كي يذوب بسهولة في بحر الثقافة الغربية الرأسمالية المادية
بالإضافة إلى ذلك؛ تعمل العولمة الثقافية على طمس الهوية الثقافية للأمة الإسلامية؛ من خلال نشر الأزياء والمنتجات الكمالية الأميركية في كثير من الدول الإسلامية، إذ إن هذه السلع تحمل في طياتها ثقافة مغايرة، تسحق ثقافات الأمم المستوردة لها، كما أنها تشجع على الاستهلاك بشراهة، لأنّ العولمة تمجِّد ثقافة الاستهلاك، وهذا يشوه التقاليد والأعراف السائدة في بلدان العالم الإسلامي.
لقد تركت العولمة تأثيرًا سلبيًا بالغًا على الثقافة العربية، حيث تجلت مظاهر هذا التأثير في شيوع الثقافة السطحية المتمثلة في الرقص والطرب، في حياة المواطن العربي، وتراجع الانتماء للأمة والقومية العربية لديه من خلال إذابة هذا الانتماء، واستبداله نظريًا بالانتماء للمجتمع الإنساني.
يُضاف إلى هذا التبعية الثقافية للعديد من المفكرين والمثقفين والأكاديميين، وتبعية المؤسّسات العربية للثقافة والمؤسّسات الثقافية الغربية، والاعتماد على الآخر غير العربي في المجتمعات العربية وخصوصًا في الميادين الدقيقة، وكذا شيوع الاستهتار لدى فئة الشباب العربي، وسعيهم وراء إشباع رغباتهم وحاجاتهم المادية والبيولوجية، والبعد عن الإبداع والتجديد والتميّز في الفكر والإنتاج، مع انتشار الكثير من الأمراض الاجتماعية كالخيانة، والزواج العرفي، وعقوق الوالدين، والعلاقات غير الشرعية بين الجنسين.
فالغرب اليوم، يسعى من خلال العولمة الثقافية إلى تحطيم كل الثوابت الدينية والفكرية والأخلاقية، للوصول إلى بناء إنسان هامشي، دون جذور قوية ثابتة، كي يذوب بسهولة في بحر الثقافة الغربية الرأسمالية المادية.
وتهدف العولمة في شكلها الثقافي إلى إزالة الحدود الدينية والعادات والتقاليد، حتى تكون العقول المستقبلة للمادة الثقافية أكثر انفتاحًا وتقبلًا لما يأتي من الخارج دون تفكير أو إعادة نظر، بعد أن حطمت كل بوابات المراقبة والنقد؛ إذ يقوم النظام العالمي الجديد في مشروعه المعولِم لكل شيء على اختراق الثقافات الوطنية والثوابت الذاتية، ويعمل على طمس معالم الذات والأصل والشرع، بطرح بدائل هجينة منمقة ومزوّقة، تجلب الأنظار، ثم القلوب والعقول.
لا بد من الردّ على هذا الغزو الثقافي للعولمة بكل الوسائل الممكنة، كما يجب على المجتمعات العربية في عصر العولمة أن تتخلص من التبعية والتقليد للغرب، وتتبنى النموذج الإسلامي الحضاري الفريد، حتى تستطيع المحافظة على كيانها وهويتها الثقافية والحضارية
والواقع الذي تعيشه بلدان العالم الإسلامي يوفّر الفرص المواتية أمام تغلغل التأثيرات السلبية للعولمة الثقافية، لأن مقوّمات المناعة ضد سلبيات العولمة ليست بالدرجة الكافية، التي تقي الجسمَ الإسلاميَّ من الآفات المهلكة، التي تتسبَّب فيها هذه الظاهرة العالمية المكتسحة للمواقع والمحطّمة للحواجز.
فالثقافات الوافدة تشكل خطرًا على الهوية العربية والإسلامية، وخاصة في ظل ضعف التحصينات الداخلية، والانفتاح بلا وعي على العالم الغربي، وخصوصًا الجانب الإعلامي، فهي تستهدف القضاء على التراث الثقافي، والمكون الحضاري للعرب والمسلمين، بعد أن لم يبقَ في مواجهة الطغيان الغربي سوى الإسلام، وما يحمله من الضوابط والقواعد الأخلاقية.
لقد أحدثت ثقافة العولمة فجوة هائلة بين دول الشمال ودول الجنوب، وسعت إلى تهميش ثقافات الدول النامية التي لم تستطع استئصالها. ولا شك أن الثقافة الإسلامية هي الهدف الرئيسي للعولمة الأميركية، ولذلك تعمل على محاربة الإسلام بما ينطوي عليه من مبادئ وقيم سامية، ومنهج في التطبيق لا يعلو عليه أي منهج آخر، ويتعارض مع مصالح العالم المادي الغربي، الذي يساند تيار العولمة بكل ما يملك.
لذلك، لا بد من الردّ على هذا الغزو الثقافي للعولمة بكل الوسائل الممكنة، كما يجب على المجتمعات العربية في عصر العولمة أن تتخلص من التبعية والتقليد للغرب، وتتبنى النموذج الإسلامي الحضاري الفريد، حتى تستطيع المحافظة على كيانها وهويتها الثقافية والحضارية في ظل التنافس الحضاري والتدفق الحر للمعلومات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.