شعار قسم مدونات

"السَنْورة" والرجل "السنوار".. الفداء وإثراء اللغة

السنوار الليلة الأخيرة المصدر: الجزيرة - ميدجيرني
المشهد الملحمي للحظات الأخيرة لاستشهاد يحيى السنوار (الجزيرة - ميدجيرني)

لم يقتصر تأثير المشهد الملحمي للحظات الأخيرة لاستشهاد القائد يحيى السنوار على السياسة فقط، بل ذهب أعمق من ذلك، فترك أثره على اللغة، مما يعني أنه دخل في عمق الهوية والمجتمع والتاريخ.

يمكن رصد جذر لغوي جديد، سيدخل المعاجم بعد فترة وجيزة، وقد بدأ يدخل بقوة إلى عمق التداول اللغوي، فلم يعد اسم السنوار علمًا (مرتجلًا) فقط، على لغة النحويين الذين يقسمون الأعلام إلى منقول ومرتجل، فالعلم المنقول هو المشتق، مثل: حارث وجابر أو المأخوذ من اسم آخر مثل أسد وأسامة، أما المرتجل فهو الذي سمع هكذا من دون اشتقاق معلوم أو نقل عن كائن آخر، ويدخل (السنوار) أصلًا في الأعلام المرتجلة، لكنه بعد استشهاده أصبح جذرًا لغويًا يشتق منه الفعل والمصدر والاسم وغيره، وتدور دلالته حول جملة من المعاني والمفاهيم الجديدة.

لقد سَنْوَرَتْ مشاهد البطولة المتجسدة في لحظات استشهاد أبي إبراهيم أمة كاملة، وبقيت آثاره القائدة خالدة محركة للأجيال، فكم متردد كان منخذعًا بالدعاية الصهيونية!

فمنها (السَّنْورة)، وتعني تلك الحالة الثورية التي تتلبس الفرد أو الجماعة أو الأمة، ومن مظاهرها "الإيمان بالذات والجسارة على الفتك"، ويسمى القائم بها (سِنوار)، ويستوي فيها المذكر والمؤنث، فيقال رجل سنوار وامرأة سنوار، وقد يشتق منها الفعل فيقال "سَنْوَر" المرء إذا استطاع بفعل تربوي تشجيعي أو بضغط عسكري أو سياسي أن يخرج فيه تلك الصفات، وقد "تَسَنْوَر" أي تمثل قيم السنوار، وهي الإيمان العميق والتكوين الدقيق والفداء الذي لا ينظر صاحبه إلى الخلف، ويمكن أيضًا أن تسمى كل عصا استخدمت للدفاع عن الشرف والحق والحرية "سِنوارية"، ولا ننسى المثل الذي وضعه أحد الفضلاء، وهو (عصا السنوار)، فتقول لمن طلب منك خدمة فبذلت له كل الجهد: "هذه عصا السنوار"، أي هذا مبلغ الجهد والوسع.

إعلان

وأيم الله، لقد سَنْوَرَتْ مشاهد البطولة المتجسدة في لحظات استشهاد أبي إبراهيم أمة كاملة، وبقيت آثاره القائدة خالدة محركة للأجيال، فكم متردد كان منخذعًا بالدعاية الصهيونية – قرَّ في ذهنه أن السنوار جالس في نفق مجهز آمن مع عائلته، يحتسي القهوة وتنتقى له أطايب ما يصل غزة من مساعدات – سقطت تلك الدعاية من ذهنه حين أبصره بعينيه – عبر قنوات ومنصات الاحتلال – نازفًا دمه، حاملًا بندقيته، يتقدم الصفوف.

الصحابي النعمان بن مقرن

"اللهم اعزز دينك وانصر عبادك واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك"، قالها الصحابي النعمان بن مقرن-  رضي الله عنه – في اليوم الرابع من أيام معركة القادسية المجيدة، ثم اندفع في نحر العدو، وقاتل حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه شهيدًا، واستبسل الناس باستبساله، كلمات ما يزال رنينها الحماسي يحرك قيم البطولة في النفوس، وتلك أهمية الآثار القائدة.

يحاصرني هذا الموقف القيادي للصحابي منذ رأيت مشهد أبي إبراهيم وهو يدفع بنفسه في مقدمة المعركة، ويقع شهيد معترك تاركًا تلك الصورة موقفًا باقيًا في أثره، يحرك العواطف ويبعث الهمم.

إن تلك المشاهد حطمت قيمًا سلبية، وأسست قيمًا إيجابية، ومن أعظم القيم السلبية التي ألغتها قيمة أن القائد آخر من يموت، وهي القيمة التي خبَّأ وراءها كثير من القادة جبنهم وخورهم، حتى كاد الناس يؤمنون بأن المُثُل لا يمكن أن تتحق في الواقع، فضعفت الهمم وخلدت النفوس إلى الأرض، وأعطت العقود الجبانة قيم البطولة والفروسية دلالة سلبية، فصار عنترة رمزًا للتندر، يضرب مثلًا للذي يجعجع بلا طحين، ويظهر قوته وفتكه، وما ذلك إلا لأن الناس ظنت – بفعل الخنوع الممنهج – أن مقاربة القيم العالية مستحيلة، وأن المتسامي لها مجرد دعي (وذلك لكثرة الأدعياء)، فصار مثلًا قولنا "العنتريات التي ما قتلت ذبابة"، رغم أن عنترة لم يكن يدعي ما لا يفعل، فالتاريخ شاهد بفروسيته التي وضعته رمزًا للفداء والإباء.

الذي أسس اليوم لحرية العالم العربي هو مشهد أبي إبراهيم، وهو يقاوم بعصاه بعد أن تكسرت بندقيته في نحور العدو، ذلك المشهد الذي لو استثمره المسلمون أحسن استثمار لكفاهم كثيرًا من الخطب والمقالات

ومن القيم الإيجابية التي أسسها أبو إبراهيم قيمة الفداء الذي لا يطلب صاحبه سوى ترك الأثر المعنوي الخالد في النفوس، وهي القيمة التي غابت برهة من الدهر، فصار القائد يبحث عن اللحظة التي سيحتفل فيها بنصر ولو وهي، أما أن يجعل روحه جسرًا لعبور الأوطان نحو الحرية، ومنبرًا للنفوس الحرة تصدح فوقه بأن لا مكان للخنوع فذلك ما كدنا ننساه.

إعلان

إن القراءة الصحيحة للتاريخ تقول إن الذي أسس الحضارة الإسلامية فعلًا هم شهداء بدر، فلولا فداؤهم الخالد وتضحياتهم الأسطورية واستبسالهم المستحيل لما قامت للإسلام قائمة، وإن الذي أسس اليوم لحرية العالم العربي هو مشهد أبي إبراهيم، وهو يقاوم بعصاه بعد أن تكسرت بندقيته في نحور العدو، ذلك المشهد الذي لو استثمره المسلمون أحسن استثمار لكفاهم كثيرًا من الخطب والمقالات والدروس.

إنها الآثار القائدة فعلًا، الآثار التي لا يختلف اثنان على إلهامها وتساميها، فهي الحقيقة التي لا تقبل الجدل، والمشهد الذي لا تصفه الكلمات، ولذلك، كان من توفيق الله أن يصور صوتًا وصورة، بيد العدو، ليتحقق قول الباري سبحانه: "يخربون بيوتهم بأيديهم، وأيدي المؤمنين"، وأيم الله إن ذلك المشهد لهو بداية الخراب على دولة الاحتلال.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان