من المعروف أن أقوى أسلحة العدو هو تكريس حالة الخوف من المحتل والقابلية بوجوده، وهذه الحالة مررنا بها في مرات كثيرة، أغلبها متعلقة بمحتلّي المسجد الأقصى، أولها كانت تلك الحالة التي أصابت المسلمين بعد الاجتياح الفرنجي لبلاد الشام حين دخلوا القدس عام 1099م، وارتكبوا مجازر بحق أهل المدينة المباركة.
هي حالة الوهن والضعف، وبمعنى أدق: اليأس من النصر، فهذه الحالة عندما تسيطر تكون الهزيمة لا مفرّ منها. ويؤكد هذا الفيلسوف الصيني والخبير العسكري سون تزو في كتابه "فن الحرب"، إذ يقول: "عندما تحاصر عدوك، اترك له فسحة صغيرة للهرب.. لا تضغط كثيرًا على عدو يائس".
تخطى المسلمون هذه الحالة على أكثر من مرحلة، أولها كان تحرير مدينة الرها على يد الجيش الإسلامي الذي كان تحت قيادة عماد الدين زنكي عام 1144
وهنا يأتي المفكر الجزائري مالك بن نبي، ليكشف الداء أمام أعيننا، ثم يوضح لنا الدواء، إذ يقول في كتابه "شروط النهضة: "وليس ينجو شعب من الاستعمار وأجناده، إلا إذا نجت نفسه من أن تتسع لذل مستعمر، وتخلصت من تلك الروح التي تؤهله للاستعمار. ولا يذهب كابوسه عن الشعب – كما يتصور بعضهم – بكلمات أدبية أو خطابية، وإنما بتحول نفسي، يصبح معه الفرد شيئًا فشيئًا قادرًا على القيام بوظيفته الاجتماعية، جديرًا بأن تُحترم كرامتُه؛ وحينئذ يرتفع عنه طابع (القابلية للاستعمار)، وبالتالي لن يقبل حكومة استعمارية تنهب ماله وتمتصّ دمه، فكأنه بتغيير نفسه قد غيّر وضع حاكميه تلقائيًا إلى الوضع الذي يرتضيه".
أمّا عن كيفية وضع العدو لهذه الحالة ومن ثم تغذيتها، فذلك عن طريق المجازر التي يرتكبها، مثل مجزرة القدس التي ارتكبتها قوات الفرنجة عام 1099، حينما قتلوا الآلاف من سكان المدينة، من مسلمين ويهود، ومسيحيين مخالفين لهم في المذهب.. بعدها سيطرت حالة الضعف والوهن على المسلمين.
لكنْ، تخطى المسلمون هذه الحالة على أكثر من مرحلة، أولها كان تحرير مدينة الرها على يد الجيش الإسلامي الذي كان تحت قيادة عماد الدين زنكي عام 1144، وكان ذلك الانتصار بداية كسر الحاجز النفسي أمام قوات الفرنجة.
بعدها تولى قيادة المسلمين خلفه نور الدين محمود، وانتصر على الصليبيين في معركة (سمسياط) عام 1146، وأفشل محاولتهم لاستعادة مدينة الرها، ثم انتصر عليهم في معركة (بُصرى) عام 1147، وقام بالتأسيس لتحرير بيت المقدس، إذ أمر أمهر النجارين في دمشق بتجهيز منبرٍ لوضعه في المسجد الأقصى بعد تحريره من الفرنجة. وكل هذا ساهم في تجاوز حالة الضعف والوهن عند المسلمين، إلى أن وصلنا لتحرير المسجد الأقصى على يد صلاح الدين عام 1187.
بعد تجاوز حالة الوهن والضعف، وتحقيق الانتصار على الدعاية الصهيونية، التي كانت وقتها تسيطر على قلوب الشعوب العربية، انتصر المصريون في حرب السادس من أكتوبر/ تشرين الأول، وعبروا القناة ودمروا خط بارليف
ومن النماذج على انتصارات المسلمين بعد تجاوز حالة الضعف انتصار الجيش المصري في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1973.. قبلها كانت الدعاية الصهيونية مسيطرة على نفوس الشعوب العربية، إذ إنه صار في أعين العرب الجيش الذي لا يُقهر، وأن خط بارليف المنيع – خلف الجانب الثاني من القناة – لن يُدمَّر إلا بالقنبلة الذرية، حسب تصريحات بعض الخبراء العسكريين الغربيين، بل وخلفه مئات الآلاف من الجنود الذين لا يُهزمون!
لكنْ، كان لا بد من تجاوز حالة الضعف حتى يستطيع الجنود المصريون خوض المعركة ضد جيش الاحتلال دون رهبة.. يقول الفريق سعد الدين الشاذلي عن الخطبة، التي كان يريد أن يوجهها للجنود قبل بدء المعركة، حتى يتجاوز الجنود حالة الخوف من العدو يومها: "كانت أقوى خطبة وأقصر خطبة هي الله أكبر، إذ كان علينا أن نُحضِر مجموعات من الأفراد، على كل كيلو من قطاع الاختراق – فرد أو أكثر معه مكبر صوت – ويصدحون بالتكبير، ويُكبر كل الجنود الذين يعبرون من القناة، واشتعلت القناة وقتها بالتكبير".
وبعد تجاوز حالة الوهن والضعف، وتحقيق الانتصار على الدعاية الصهيونية، التي كانت وقتها تسيطر على قلوب الشعوب العربية، انتصر المصريون في حرب السادس من أكتوبر/ تشرين الأول، وعبروا القناة ودمروا خط بارليف، وتم إجلاء الصهاينة من سيناء، وطردهم من مستعمراتها، إلى أن تحررت بالكامل في ثمانينيات القرن الماضي.
مثال آخر على سيطرة الضعف والخوف من العدو ذاته كان في العام الماضي قبل طوفان الأقصى؛ إذ كانت الدعاية الصهيونية للكيان تسيطر على كل الشعوب العربية، وأغلب الحكومات تهرول نحو التطبيع، وبلغت ذروة الغطرسة الصهيونية في سبتمبر/ أيلول من العام 2023- أي قبل طوفان الأقصى بأقل من شهر- حين عرض بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان خريطة في الأمم المتحدة، واللون الأزرق فيها يكسو مناطق فلسطين بالكامل، بما فيها الضفة وقطاع غزة.
كان لطوفان الأقصى نتائج مهمة؛ إذ أيقظ العالم من سباته، ونبهه أن هناك شعبًا يقاوم الاحتلال منذ أكثر من 75 عامًا، بينما ينشغل العالم في قضايا أقل أهمية
كذلك كان الأمر قبلها بستة أشهر، حين عرض وزير ماليته سموتريتش خريطة أخرى للكيان، تضم كامل فلسطين ومعها الأردن، بل ويمضي في وقاحته فيزعم أن الشعب الفلسطيني اختراع وهمي لم يتجاوز عمره مائة عام!. ولم تقف وقاحة الاحتلال عند هذا الحد، بل وصلت به إلى تقسيم المسجد الأقصى مكانيًّا وزمانيًّا.
وكان لا بد لمن سيحاربون الكيان أن يتجاوزوا حالة الضعف والانكسار، ولذلك جاءت كلمات رئيس أركان كتائب القسام، القائد محمد الضيف، يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول: "اليوم يتفجر غضب الأقصى.. غضب شعبنا.. غضب أمتنا.. غضب أحرار العالم!. مجاهدينا الأبرار، هذا يومكم لتُفهموا هذا العدو المجرم أنه قد انتهى زمنه، اقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، قاتلوا والملائكة سيقاتلون معكم مردفين، وسيمددكم الله بملائكته مسومين، وسيوفي الله بوعده لكم: وكان حق علينا نصر المؤمنين".
وبعدها كان طوفان الأقصى، لتأتي الساعات الأولى بعد فجر السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، إذ بدأت بإطلاق أكثر من 5 آلاف صاروخ وقذيفة على مناطق المستوطنات، خلال أول 20 دقيقة بعد انطلاق العملية، حسب كلام قائد أركان كتائب القسام محمد الضيف، وتسلل المقاومون إلى مستوطنات غلاف غزة، بل وسيطروا على بعض المناطق لعدة ساعات، إضافة إلى هبوط بعض المقاومين عبر المظلات، كما تسللت ضفادع بشرية عبر البحر، لينتج عن اليوم قتلى بالمئات، إضافة إلى أسر أكثر من 200 عنصر من الجنود والمستوطنين، حسب تصريح الناطق العسكري باسم كتائب القسام، "أبو عبيدة".
كان لطوفان الأقصى نتائج مهمة؛ إذ أيقظ العالم من سباته، ونبهه أن هناك شعبًا يقاوم الاحتلال منذ أكثر من 75 عامًا، بينما ينشغل العالم في قضايا أقل أهمية.. أكد لنا أيضًا أن هذا المحتل هش وضعيف، لا كما يصور نفسه على أنه الجيش الأقوى في المنطقة!
وأثبت لنا الطوفان أيضًا أكذوبة أن دولة الاحتلال هي "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، الأكذوبة التي كان يرددها الساسة الغربيون لتبرير دعمهم المستمر لدولة الاحتلال. كما فضح الطوفان أكذوبة الشعارات الغربية التي تكثر على مسامعنا، إذ إنهم في أول منعطف خالفوا المبادئ التي زعموا أنهم قاتلوا الدنيا لأجلها.
لكنْ، كانت أهم رسائل طوفان الأقصى أنه لا حل للقضية الفلسطينية إلا برحيل المحتل عن كامل أرض فلسطين، فمهما تمدد الاحتلال، واتسعت رقعته، وزاد استبداده، وأكثر من بطشه، سيظل ضيفًا ثقيلًا عليه أن يرحل في يوم من الأيام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.