شعار قسم مدونات

تقاطع الأحزان وتجلي صوت النكِرات.. قراءة في رواية "حراس الحزن"

رواية حراس الحزن الجزيرة
غلاف رواية "حراس الحزن" للروائي أمين تاج السر (الجزيرة)

في العام 2022 أصدرت دار "هاشيت – أنطوان نوفل" روايةَ "حراس الحزن"، للكاتب والروائي أمير تاج السر.

عندما يذهب القارئ أو المتلقي إلى متجر بيع الكتب أو إلى دور العرض لاقتناء كتاب أو رواية، أو عندما يتصفح المواقع الإلكترونية التي تقوم بنشر الكتب، أو عندما يقابله أو تلتقط عينه هذا العنوان: "حراس الحزن"، سوف يتوقف عنده. وتدور في ذهنه أسئلة عديدة من جنس مَن هم حراس الحزن الذين تحدثنا عنهم الرواية؟ أهو عنوان تسويقي لغرض البيع، أم هو فعلًا يحدثنا عن هذه الفئة من الناس، هؤلاء الحراس؟

"حراس الحزن" هي رواية بنت الواقع المعطى والملموس بشخوصه وفئاته المجتمعية، فالرواية تتجه لنوع الواقعية النقدية التي عرت المجتمع وفضحته وكشفت الاختلالات التي تعاني منها بيئته الاجتماعية والثقافية

فعنوان الرواية هو انعكاس لنصها الداخلي، للحكاية ومضمونها، سيكتشف القارئ أو يتكشَّف له مغزى ودلالة العنوان بعد الولوج إلى النص، إلى عوالم الحكاية، إلى الرحلة المشحونة بالألم والمعاناة والعذاب التي يأخذنا فيها الكاتب، وسوف يدرك القارئ ويعرف هويتهم ومعاناتهم وآلامهم وأحزانهم عندما يكمل قراءة الرواية.

رواية "حراس الحزن".. يعود زمن الحكاية إلى بداية السبعينيات من القرن العشرين، وفي عهد الرئيس جعفر نميري، وفضاء أو مكان الرواية هو مدينة سودانية وليس قرية، مدينة لم يسمّها الكاتب صراحة، فهي مدينة لأن كل ما ذكر من ملامح ومشاهد يوحي بمعالم مدينة كجنس المدن السودانية المشوّهة، ولأنه ليس في القرى أحياء عشوائية وأخرى متحضرة أو راقية، وليس فيها محطات قطارات وأطفال متسولون، وقضايا من جنس أن تحمل امرأة دون زواج.

لا ننفي ذلك، ولكن عندما يحدث تُستخدم إستراتيجيات محددة للتعامل معه؛ فإما أن يتم الإجهاض في بداية تكون الجنين تفاديًا لقصة العار والفضيحة، وحتى لا يعرف أحد وتخدش سمعة الأسرة، أو أن يُذهب بالمرأة الحُبلى بعيدًا عن مجتمع القرية، وغالبًا إلى المدينة لإنجابه والتخلص منه بأي وسيلة، لأنه إذا حدث هذا في القرية سوف تكتشف الحادثة بكل سهولة، لطبيعة مجتمع القرية الضيق والمتشابك، وثرثرة شخوصه، وتناولهم الأخبار الخصوصية.

لقد عكست لنا الرواية على لسان بطلها علي صلاح وبقية أشخاصها، فئات في المجتمع، تم طحنها وسحقها وإذلالها، اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا؛ فـ"حراس الحزن"، هي رواية بنت الواقع المعطى والملموس بشخوصه وفئاته المجتمعية، فالرواية تتجه لنوع الواقعية النقدية التي عرت المجتمع وفضحته، وكشفت الاختلالات التي تعاني منها بيئته الاجتماعية والثقافية والسياسية، كل هذا الكشف يتم عن طريق الحكي المتقاطع والسخرية اللاذعة التي تميز عمل الكاتب.

ما يميز روايات الكاتب تاج السر هو الإفراد وروعة المحكي وجزالة الحكي، وفي هذه الرواية نجد الجانب الجمالي والفني في مهارة السردي ليقدم لنا عملًا جستالتيًا رائعًا، ثم حبكة الحكاية وتناوب الحكايات داخلها في عملية تسلسل متماسكة ومتجانسة

والسرد في الرواية هو من النوع المختلط بين البوليفية والمونولوجية؛ فالسارد الرئيسي هو البطل علي صلاح، ولكنْ ثمة تداخلات كذلك وحضور حواري لشخوص الرواية الآخرين في جوانب كثيرة من الرواية، وهي طريقة سرد تميز أعمال أمير تاج السر.

وفي سرد الحكاية الرئيسية المعاناة والحزن، وهي بؤرة السرد التي يركز عليها الراوي في عملية من الحكي متداخلة، ما يعكس أن تنوع الحكي وتعدده هو لتنوع صور وأشكال الحزن في عملية تقاطعية بين الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي.. لكل فئة أو شخص معاناته وحزنه الخاص، فـ"حراس الحزن" نص سردي يتخذ من الواقعية النقدية فضاء ومنطلقًا له، ويتناهى فيه الواقع والخيال بطريقة يصعب الفصل بينهما.

فالكاتب يختار لنا البطل علي صلاح، موظف الحكومة المحلية، الذي يمتلك صفات وخصائص تختلف عن بقية شخوص الرواية، في نظرته للأشياء وميوله للعزلة وتمتعه بالحسّ الإنساني. وكذلك يكشف لنا الراوي الجانب الخفي الذي يدور في مجتمع الرواية، وأذهان شخصياته، وهي في الواقع الملموس لا تتكشف وتظهر في الفضاء العمومي بصورة صريحة، وتناقش بكل شجاعة في هذا الفضاء العام، لأنه ثمة تابوهات تمنع أو تحول بينها وبين ظهورها والحديث عنها، أو لأنها من القضايا المهملة لأنها – حسب نظرة المجتمع – تنتمي إلى جانب الفضيحة، ويجب ألا يتم نبشها في العلن وأمام الغير أو الجمهور.

عندما يكمل القارئ قراءة الرواية سيقول إن هؤلاء الأشخاص: سعد نزوة، وسمية رمضان، وسلوى بطرس، وإسماعيل، ونجم الدين التائة، وعبد العال، ورجال الشرطة أمثال شطة ولعيبة الرياضة القدامى، وغيرهم.. كل هؤلاء قابلتهم في الواقع أو سمعت قصصًا من أشخاص قابلوا مثل هذه الفئات والأشخاص في الواقع.

إن ما يميز روايات الكاتب تاج السر هو الإفراد وروعة المحكي وجزالة الحكي، وفي هذه الرواية نجد الجانب الجمالي والفني في مهارة السردي ليقدم لنا عملًا جستالتيًا رائعًا، ثم حبكة الحكاية وتناوب الحكايات داخلها في عملية تسلسل متماسكة ومتجانسة.

وكذلك استخدامه أسلوب التشويق عن طريق كتم المعلومة في المحكي والسردي، ما يجعل القارئ في وضعية أسر ومطاردة مع النص واستحالة مفارقته أو تركه قبل أن تكتمل الحكاية والرواية. وكل انتقال في تسلسل الحكاية هو انتقال في تسلسل الألم الذي ينخر شخوصها من الداخل.

تنقلنا الرواية إلى جوانب من فشلنا الإداري والسياسي، وغطرسة الأجهزة الأمنية: عندما يقول الراوي: ".. كنت أتأمل ضحايا التعذيب، والآن أحصيهم.. كانوا ستة، كلهم في منتصف العمر، وكلهم يبدون بلا ذاكرات، كذلك كانت السجون في العهود الظالمة

تحدثنا الرواية عن وعود الحكومات الكاذبة، وهي معضلات البلاد التاريخية، حيث الاقتتال القبلي وشر الانقلابات العسكرية ونفاق الحكومات الديمقراطية، وتحدثنا عن تفسّخنا الاجتماعي والأخلاقي، والخلل البنيوي في الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي.

وإذا تناولنا النص الروائي سوف ندرك ملامح هذا الاختلال؛ ففي الجانب السوسيوثقافي، نجدها عندما يُنبذ طفل حديث من قبل المجتمع، وهو لا ذنب له: "… احتككت برجل أشيب كان قادمًا من هناك، سألته: ماذا يحدث يا عمّ؟ رد: فضيحة!. أي فضيحة؟ عثروا على طفل حديث الولادة ملقى في الزبالة. هل عثروا على أمّه؟ لا. أين الفضيحة إذن؟…."

عندما ترى الأشياء بمنظار مختلف غير منظور الثقافة الاجتماعية السائدة، فهذا المنظار جريمة ومنظار شيطاني في نظرها: "… شوهدت تحنو على طفل، تتحسس رأسه ويديه، وأقسمت المرأة التي كانت تحمله أنك بكيت، هل يؤنبك ضميرك إلى هذه الدرجة؟ ويرد عليَّ: هل الحنو على رضيع دليل أبوّة له؟ ".

وإذا انتقلنا إلى الجانب السوسيواقتصادي وظهور علله على الأفراد، ندرك الخلل عندما يتم إغراء أو إغواء مراهقة كنموذج ليلى من قبل رجل مسن: "… بعد دقائق توقفت سيارة ماركة فوكسل رمادية، والهيكل مخدوش في جوانب عدة أمامها، فتحت الباب الأمامي وركبت. كان ثمة رجل نحيل أشيب يجلس خلف المقود وضحكات منغّمة لفتيات تأتي من المقعد الخلفي…".

ومع تطور السرد تم القبض على الرجل المسن وليلى، وهما يمارسان الجنس، من قبل أفراد من الشرطة في أحد المنازل. فواقع ليلى – كما يصفها لنا الراوي – أنها "فتاة حزينة وتائهة، إنما نسخة أنثوية من نجم الدين، نسخة بلا حظ". أو عندما يصف سعد نزوة وضعه الاجتماعي والاقتصادي: "… أنت تعرف وضعي وأنني أسكن في مكان غير مؤهل ليسكنه أحد… وضعي الاقتصادي هو الذي أختاره، لكني لست نادمًا، هناك عثرت على نصفي حتى آخر العمر".

وكذلك تنقلنا الرواية إلى جوانب من فشلنا الإداري والسياسي، وغطرسة الأجهزة الأمنية: عندما يقول الراوي: "… كنت أتأمل ضحايا التعذيب، والآن أحصيهم.. كانوا ستة، كلهم في منتصف العمر، وكلهم يبدون بلا ذاكرات، كذلك كانت السجون في العهود الظالمة، وما تزال مقابر للذاكرات والمشاعر، والذي يخرج منها يحتاج غالبًا لتأهيل لن يمنحه إياه أحد.. إنه طبع الدكتاتورية، طبع السجانين، مثل الرقيب أول حماد، الذي يستطيع أن ينخر بسيخ من الحديد مستقيم رجل طيب ومسالم..".

كل هذه الأحزان والآلام والمآسي موجودة في الواقع، ولكن الكاتب كشفها بصورة كلية، وجعلها مرئية، جعل شخوصها يتحدثون، يظهر صوتهم، إنها خطاب من لا يملكون أي شيء، صوت من لا صوت لهم

كما ينقلنا السرد إلى جوانب من الفشل الإداري والسياسي: "… كنت آتي في الصباح، أدخل مكتبي مباشرة، أتكدس بصحبة أوراق كثيرة هي مشاريع لم تكتمل، وفي الحقيقة هي مشاريع من الوهم المكتمل؛ لأن لا قرية تتطور، ولا طريق ترابيًا وعرًا يبدو مستعدًا لأن يتحول إلى طريق مسفلت وسلس، الخدمات العامة مثل الكهرباء ومياه الشرب، والتعليم وعلاج الأمراض، كلها أمنيات تحلق في سماء تلك القرى، ولا تهبط في أي حال من الأحوال، كل حكومة تأتي تتشدق بأعذارها وفوضاها ولصوصها وتمضي، يأتي الديمقراطيون ليصفق لهم سنوات ويتغزلون بفوضاهم، ويأتي الانقلابيون لسبب واحد، وهو أن يمسكوا برأس الوطن ويمرغوه في التراب".

كل هذه المشاكل البنيوية يتقاطع بعضها مع بعض، ويظل أولئك المسحوقون أبناء الألم الذين تم إقصاؤهم اجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا على حالهم مذلولين مهانين وغير مرئيين، لا من قبل المجتمع ولا الدولة، هم – كما وصفهم الكاتب إدوارد غاليانو – "النكِرات" الذين قال عنهم:

هم ليسوا آدميين، بل موارد آدمية.. لا وجه لهم، بل أذرع.. لا اسم لهم، بل رقم.

وليس لهم ذكر في كتب التاريخ الجامعة، بل في صفحات الجرائم بالصحف المحلية.

فكل هذه الأحزان والآلام والمآسي موجودة في الواقع، ولكن الكاتب كشفها بصورة كلية، وجعلها مرئية، جعل شخوصها يتحدثون، يظهر صوتهم، إنها خطاب من لا يملكون أي شيء، صوت من لا صوت لهم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان