سبق السيف العذل!

نشر الدبابات بالجهة الغربية للإشراف ومراقبة ميناء غزة.(جميع الصور من تصوير المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي التي عممها للاستعمال الحر لوسائل الإعلام)
هذه الشدة ستنتهي وإن طالت وهذا الرعب سينجلي وإن اشتد (الجيش الإسرائيلي)

فكرت جيدًا في بدايةٍ أبدأ بها قولا غير مهم؛ فلم أجد أبلغ من وصف سعدالله ونوس عندما انتهى من رواية عبد الرحمن منيف "الآن.. هنا"، إذ قال: "كيف نعيش حياتنا اليومية، ونساكن هذا الرعب الذي يتربص بنا هُنا.. والآن؟ أي صملاخٍ بليد يحجب عن أسماعنا الصُراخ والأنين، كي نواصل نومنا كل ليلة!

هذا عار يكاد يلامس التواطؤ! من خوفنا وغفلتنا وصمتنا يغزل الجلاد سياطه، ومن خوفنا وغفلتنا وصمتنا تغص بنا السجون، تغدو الحياة هنا والآن كابوسًا من الجنون والرعب.."

وسط كل هذا الدمار الذي يعيشه الإنسان البريء من وحشية العالم، الذي يَقتُل فينا إنسانيتنا، ويسلخ منا لغة التعبير والتفاعل التي نمتلكها، أمام كل هذا السلاح ندرك أن العالم لعب بنا جميعًا، بل جعلنا أجسادًا دون أرواح

ها هو الإنسان يعيش يومه وكأن القيامة القائمة لا تشمله كإنسان، بل وكأن كل هذا الأسى لا يخصنا جميعًا! لتصبح الإنسانية جميعها مسرحية تراجيدية جُعلت للفُرجة لا غير. وعلى الرُّغم من أنّ الوضع الرَّاهن بكل تفاصيله المُفجعة يمزِّق الصمت؛ فإن القول يبقى ناقصًا مبتورًا.

لقد تخدرت مشاعرنا، فهل اعتدنا؟ سؤالٌ يلاحقني من مكان إلى مكان، أخافه وأرتبك حين أوجهه لنفسي. فإن كانت الإجابة الثابتة: لا.. كيف نعتاد؟! فسيقابلها رد آخر: لماذا كل هذا الصمت؟ أهو صمت الانفجار، أم صمت الخذلان، أم كلاهما؟

لكن.. هذا الفؤاد الممزق، التعاسة التي تلاحقنا، جلدنا المتواصل لذواتنا، الغصة العالقة، الحقد الذي يكبر فينا ويتغذى على غضبنا، غليان القلب.. كلها أشياء تخبرنا أننا ما زلنا نشعر، ما زلنا نتفاعل ولكن دون ردود فعل حقيقية.

إن هذا العبور وكأن شيئًا لا يحدث فضيحة، هذا الإنسان الغارق في وحل صمته فضيحة، اللامبالاة فضيحة، وحتى هذا التاريخ الذي يُكتب الآن، دون أن نكون جزءًا منه، غارق في مستنقع الفضيحة.

وسط كل هذا الدمار الذي يعيشه الإنسان البريء من وحشية العالم، الذي يَقتُل فينا إنسانيتنا، ويسلخ منا لغة التعبير والتفاعل التي نمتلكها، أمام كل هذا السلاح ندرك أن العالم لعب بنا جميعًا، بل جعلنا أجسادًا دون أرواح؛ لتشعر في لحظة ضعف أن وجودنا منذ البداية هنا والآن مهزلة كبرى!!

إعلان

ماذا لو ارتاح الإنسان راحة يستحقها وتستحقه؟ أن يعيش عيشة تمثّله ويريدها في وطنه هو، في أرضه هو، بين أهله وبني جلدته هو، دون أن يتدخل هذا العالم في حقه؟ ألا نستحق العيش مثل الآخرين تمامًا؟ ربما كانت الإجابة: لا؛ فقد خلق الإنسان ليشقى وفقط!!

هذا الوقت الذي يمضي مسرعًا دون علم منا، يتحكم بنا دون أن نتحكم فيه.. وهذا المكان الذي ليس لنا، بالكاد نتذكر تفاصيله، وكل هذا الطريق الطويل الشاق بالماضي المثخن برائحة الدم، والحاضر المشوّه الممتلئ بالتشرد والجوع وقتل الأبرياء والخراب في كل مكان.. مع كل هذا وأكثر، ألا يحق للإنسان أن يستسلم؟

أن يغمض عينيه لوهلة دون أن يلطمه الواقع بسواده الحالك ومذاقه المر؟ دون أن ترتجف الأيادي.. دون أن يدق القلب لدرجة السكتة من قوة الرعب والخوف.. دون أن يشعر أنه مستهدف من مكان ما لا يعرفه.. دون أن يهرب من الموت ليقع فيه.. ألا يحق للإنسان أن يشعر أن الشقاء لحظة عابرة، كابوس لثانية وينتهي؟

ستشرق الشمس بنورها من جديد، ويعود الكل إلى دياره، ولن يكون هناك متسع للحزن، بل سيكون هناك الكثير من العتاب

لماذا؟ لأي سبب؟ لأي هدف؟ من أجل أي شيء؟ يسفك كل هذا الدم ويغرق الإنسان في الأسى.. ها هو الصوت القادم يأتي واضحًا "سبق السيف العذل".

الحياة تكتب قدرها، وتشكل الإنسان والإنسانية جميعًا، وتضعنا أمام أنفسنا: إما نحن أو الشر المطلق!

لكن.. ها نحن نشاهد من عنق الزجاجة – كما يفعل جميع المتفرجين – لحظة "دك البشرية"، وندرك أن الإنسان المتفرج اختار طبعًا أن يكون المفعول به، ويعلنها بصراحة وقحة أنه "مكبّل" وعاجز كل العجز عن المقاومة؛ بينما الشر يلاحقنا، كما سيلاحقنا هذا العار إلى الأبد.

هذه الشدة ستنتهي وإن طالت، وهذا الرعب سينجلي وإن اشتد.. وستشرق الشمس بنورها من جديد، ويعود الكل إلى دياره، ولن يكون هناك متسع للحزن، بل سيكون هناك الكثير من العتاب.. فلن ينسى الإنسان أنه ظل وحيدًا ودمه يسفك دون رحمة.

نحن أمام معادلة صعبة جدًا.. كيف يترك الإنسان أخاه الإنسان ينزف هكذا؟!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان