لم أستوعب استشهاد المجاهد الرمز يحيى السنوار، كان رد فعلي ارتجاليًا بالأمس، كانت"القفلة" – بالتعبير الصحفي – والخاتمة – بالتعبير الإيماني – فوق التصور!. وعندما تكون مكامن وجوامع العظمة متجسدة في رجل مثل السنوار، تكون القفلة والخاتمة مميزة، يلتقي فيها القول بالفعل، وما أكثر أقوالنا، وقلة أفعالنا إن وجدت!
لقد اختار موتته، لم يشأ – كما قال في حياته – أن يموت كما يموت البعير – بتعبير خالد بن الوليد -، ولا أن يموت بوباء ككورونا، ولا سكتة قلبية، ولا جلطة، ولا الكونسار، كما يموت ملايين البشر.. عرف كيف يموت، كما قال نيتشة: "الرجل العظيم هو الذي يعرف كيف يموت"!. ولكن نيتشة نفسه لم يعرف كيف يموت.
كل الذين تحدثوا عن الموتة الشريفة لم يموتوها باستثناء المؤمنين مثل السنوار.
اختار السنوار كيف يعيش عزيزًا ويموت كريمًا، كيف يعيش مقاومًا ويموت شهيدًا، وهي أصدق مشاعر يمكن أن تسكن قلب مؤمن
وهذا بول فاليري يقول: "الرجل العظيم هو من يترك الآخرين في حيرة بعد وفاته".. ولم يترك فاليري الناس حيرى بعد وفاته، ولكن السنوار حيّر أحباءه وأعداءه على حدّ سواء..
هناك من يختار ملابسه، وهناك من يختار عطره، وهناك من يختار طريقة حديثه ومشيته.. واختار السنوار كيف يعيش عزيزًا ويموت كريمًا، كيف يعيش مقاومًا ويموت شهيدًا، وهي أصدق مشاعر يمكن أن تسكن قلب مؤمن.
لم يشأ السنوار أن يمشي في المظاهرات لدعم المقاومة، لم يشأ أن يكون ممن يتبرع بما جاد للمقاومة، لم يشأ أن يكون ممن يشاهد التلفاز، أو يجلس وراء الحاسوب يدعم المقاومة ببعض كلمات ويتفنن في التعبير، وإنما اختار أن يكون في الميدان وأن يعبّر بالدم، وشتان بين عشرات أو مئات الإعجابات – إن صح التعبير – وبين صيحة الدم في أمة من النيام.
كان السنوار مثالًا للرجل العظيم كما عبر عنه جبران خليل جبران في قوله: "إنما الرجل العظيم ذلك الذي لا يسود ولا يُساد".
اختار السنوار الاستشهاد على الاستسلام، لم ينتحر كما فعل أحد الشعراء في لبنان سنة 1982، ولم يختفِ في حفرة، ولم يرفع الراية البيضاء، ولم يسلم للعدو بنتائج القوة العسكرية وأحدث ما أنتجته مصانع السلاح في أميركا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا.
لم تجعل محنة فلسطين والشعب الفلسطيني السنوارَ يستسلم وييأس بل واصل ما بدأه القسام، مع اختلاف أن القسام خدعته الأنظمة العربية في الثلاثينيات بأن القضية في طريقها إلى الحل، بينما السنوار لم يلتفت لأحد، وواصل طريقه
هو من مدرسة لا تعرف الاستسلام عندما تواجه العدو الحقيقي، وتصبر على ظلم "ذوي القربى"، كما يفعل أبناء مدرسته في المحيط العربي الشقي بسلطاته ونخبه المتغربة.
هذا هو السنوار الذي أقضّ مضجع الأعداء، ويعترف له أهل الفضل بالفضل، ويقولون كما قال سنكا: "إني أميز الرجال بعقلي لا بعيني".. مع أن السنوار أبهر العقول والعيون معًا.
لم ينظر السنوار إلى هزائم العرب السابقة؛ فهو يدرك أن العنوان كان خاطئًا، وأن جريمة إبعاد الإسلام عن المعركة كانت جريمة مضافة، فأعاد رفع الراية "باسم الله قمنا نبتغي رفع اللواء، فليعد للدين مجده، فليعد للقدس مجده أو تُرق منا الدماء".. وكان شكسبير يقول: "معاودة الكفاح بعد الفشل تشير إلى معدن الرجال".
لم تجعل محنة فلسطين والشعب الفلسطيني السنوارَ يستسلم وييأس بل واصل ما بدأه القسام، مع اختلاف أن القسام خدعته الأنظمة العربية في الثلاثينيات بأن القضية في طريقها إلى الحل، بينما السنوار لم يلتفت لأحد، وواصل طريقه حتى استشهاده.. فالمحنة تصنع الرجال، ورغد العيش يصنع الوحوش، كما نقل عن "فيكتور هوغو".
وهو من الرجال الذين قال عنهم العلامة محمد الغزالي: "يعرفون أيام الشدائد لا أيام الموائد".. وقد مرت شدائد كثيرة على السنوار من نعومة أظافره، عاش في الملاجئ، وشهد هزائم العرب كلها، من 67 وحتى 82، وشهد تخاذلهم، بل وعمالتهم في موالاة العدو على حساب القضية المركزية للأمة.
عندما تبحث عن العظمة والرجال العظام في الشرق والغرب، وكل الثقافات وكل الحضارات، تجدها مجمعة في السنوار، وهكذا تحدث أفلاطون: (مقياس الرجل العظيم قدرته على السخرية من المتاعب)
لقد قضى السنوار وهو يدافع عن شرف أمة كاملة، لم تساعده الظروف – كما يقول جون ميلتون، الشاعر الإنجليزي الشهير صاحب (الفردوس المفقود) – وهو ديدن الرجال العظماء.
شخصيته الفريدة التي نسجها الإسلام وفّرت له مواصفات الرجل العظيم بمقاييس الشرق والغرب، لم يكن السنوار كثير الكلام، ولكنه كثير الفعل، كما قال كونفوشيوس: "الرجل العظيم يحب البطء في أقواله والسرعة في أعماله".. لم يكن السنوار ينظر لقلة حيلته، ولا لقوة العدو، بل كان ينظر لهدفه والاستعداد للتضحية من أجله بروحه، لدرجةٍ كان يتحدى فيها المحقق الصهيوني: "يومًا ما سأكون في مكانك، وأنت في مكاني".. يا للعظمة!
عندما تبحث عن العظمة والرجال العظام في الشرق والغرب، وكل الثقافات وكل الحضارات، تجدها مجمعة في السنوار، وهكذا تحدث أفلاطون: "مقياس الرجل العظيم قدرته على السخرية من المتاعب".. كان وهو يلوّح بالعصا للطائرة التي كانت تصور المكان يقول أنا هنا أنا أريد أن أستشهد!. كان فعلًا قد قرر أن يستشهد معلمًا جديدًا على الطريق إلى القدس.
دمت قائدًا عظيمًا أيها السنوار، أنت لم تمت، أنت أحييت أمة، وأضاء استشهادك درب قوافل المقاومين وجحافل الشهداء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.