شعار قسم مدونات

الأسرى الفلسطينيون: رسالة في عنق الزجاجة

ضابط في مصلحة السجون الاسرائيلية يوحاي أفني الذي قتله أسير فلسطيني سابق طعنا داخل مستوطنة قرب القدس المحتلة مصدر الصورة: الصحافة الإسرائيلية
ضابط في مصلحة السجون الاسرائيلية (الصحافة الإسرائيلية)

هل تعلم أنّ الأسير رغم ندرة الطعام، وسوء جدواه، يحاول طوال اليوم تناول وجبة واحدة فقط، وكل ذلك من أجل التقليل من الذهاب إلى المرحاض؛ حيثُ إن إدارة مصلحة السجون قامت بقطع الماء عن الأسرى، ومن ثمَّ قامت بسحب كافة أدوات التنظيف الشخصية للأسرى؟!..

بهذه الكلمات يبدأ أحد الأسرى المحرّرين من الضفة الغربية كلماته، عند سؤاله عن واقع السجون بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، إذ تعمدت إدارة مصلحة السجون تغيير واقع الحركة الأسيرة بعد هذا التاريخ، وأكثر ما تعمدته إحكام قبضتها على السجون تحت بند العقاب الجماعي، وإقناع البيئة الداخلية للاحتلال بأنها قادرة على الانتصار.

نقلة نوعية يُكمل من خلالها الأسير قصته، إذ تتغير ملامح الوجه، ويُحبس الدمع في العيون، ويصمت الجسد.. هكذا بدت الملامح عندما بدأ الأسير حديثه عن ظروف استشهاد الأسير ثائر أبو عصب

إذن، دون تحليل، يُبحر النص في عمق البحر دون أي تدخلات، وذلك لوصف المشهد على طبيعته!. واستنادًا إلى الكلمات السابقة، يقول الأسير: "القمع من سجن إلى آخر يفرق، ولكن الهدف واحد.. منذ بداية الحرب قامت إدارة مصلحة السجون بعملية نقل كبيرة للأسرى، حيثُ تعمدت فصل الأسير عن بيئته الجغرافية داخل الحركة الأسيرة، والقصد ألا يلتقي أسرى قرية فلسطينية مع بعضهم البعض داخل السجون، وأكثر من ذلك حولت البوسطة إلى مسلخ حقيقي، إذ يقوم السجانون بضرب الأسرى بعصا على كافة أنحاء الجسد، وتحديدًا المناطق الحساسة، ويتم هذا الضرب عند الخروج إلى المحكمة، أو زيارة المحامي، أو الذهاب إلى العيادة الطبية".

إعلان

لا بأس، نقلة نوعية يُكمل من خلالها الأسير قصته، إذ تتغير ملامح الوجه، ويُحبس الدمع في العيون، ويصمت الجسد.. هكذا بدت الملامح عندما بدأ الأسير حديثه عن ظروف استشهاد الأسير "ثائر أبو عصب"، إذ يقول الأسير: "في ساعات النهار سأل أبو عصب أحد السجانين إن كان هناك في الأفق هدنة، وهنا قال له السجان، ليلًا سأقوم بإخبارك إذا حدث شيء.

وبالفعل، عند المساء جاءت قوة تتبع لإدارة مصلحة السجون، واقتحمت الزنزانة المتواجد فيها الأسير ثائر أبو عصب، وقامت هذه القوة بضرب أبو عصب بعصا من حديد على رأسه، وتركوه ملقى على الأرض، وذهبوا إلى الزنازين الأخرى من أجل استكمال جولة الاعتداء، وعندما عادوا إلى زنزانة أبو عصب كان قد فارق الحياة"، وهنا يُعقب الأسير قائلًا: "نحن الأسرى لم نعد نخاف الموت، كنا نتمنى الموت ليتوقف الضرب المبرح على الأجساد المنهكة والجائعة والمتعبة".

لا مناص، يُكمل الأسير وجبة الكلام الممزوجة بالقهر، والظلم، إذ يقول عن قصة سمعها داخل السجن: "اقتحمت إدارة مصلحة السجون زنزانة العزل الانفرادي للأسير "زكريا الزبيدي"، وانهالوا عليه بالضرب المبرح، وفي الزنزانة المجاورة كان أسير آخر يسمع الصراخ القادم من زنزانة الأسير الزبيدي، وفي تلك اللحظة تمنى هذا الأسير أن يأخذ الله أمانته"، وهنا يُعلق صاحب الحكاية، بل الشاهد على المجزرة النفسية، قائلًا: "كانوا يتعمدون الإهانة، ويتعمدون كسر إرادة الأسير، ولكنهم رغم قتل الأسرى، والمجازر بحق أسرى غزة، قد فشلوا".

صمت يُحاصر الزمان والمكان، ولكن صاحب القصة يحاول لملمة التفاصيل الكبيرة والكثيرة، ولكن الفأر يأكل خواطره، ويبحث عن فرصة تأخذ روحه، لكنها لا تأخذ حريته، ولكن هذا الراوي الشجاع يعود ويكمل رغم المرارة

يُكمل الراوي كلماته محاولًا التحرر من سطوة الموقف، ونار الكلمات، إذ يقول: "في يوم من أيام الجحيم، اقتحمت قوة من إدارة مصلحة السجون الزنزانة التي أقبع فيها، ومباشرة قاموا بتقييد اليدين إلى الخلف، ثمَّ وضعوا قطعة قماش على العينين، وبعد ذلك قاموا بإبعاد كل أسير عن الآخر مترًا واحدًا، وفجأة بدأ صوت إطلاق رصاص، وعلى صعيدي الشخصي كنت الرقم الثامن في الطابور، ولذلك بدأت العد، مع كل رصاصة كان الرقم ينقص، وفجأة بدأ السجانون بالضحك، وانسحبوا.. ولمدة ساعتين، بقي كل أسير في مكانه من الخوف، معتقدين أنهم لم ينسحبوا، وأنهم قتلوا أسرى، ولنكتشف بعد ذلك أنَ الرصاص الذي أطلقوه كان للترهيب والتخويف فقط، ولم يُقتل أحد".

إعلان

وكأن صاحب القصة هنا يقول ما قاله يومًا الكاتب النمساوي "ستيفان تسفايغ" في روايته "الخوف": "الخوف أشد من العقوبة"، إذ يقصد تسفايغ أنّ الخوف هو العقوبة الكبرى، والأكثر قهرًا، إن لم يكن هو العقوبة الأشد.

صمت يُحاصر الزمان والمكان، ولكن صاحب القصة يحاول لملمة التفاصيل الكبيرة والكثيرة، ولكن الفأر يأكل خواطره، ويبحث عن فرصة تأخذ روحه، لكنها لا تأخذ حريته، ولكن هذا الراوي الشجاع يعود من جديد -رغم مرارة الكلمات- وهو يُمسك طرف الخيط لسرد حكايته، إذ يُكمل قائلًا: "لقد كانت إدارة مصلحة السجون تتعمد إطلاق سراح أسرى حركة حماس، وإبقاء أسرى الفصائل الأخرى، وذلك من أجل خلق شرخ داخل الحركة الأسيرة، وللتوضيح: أقصد أن يبدأ الأسرى بالشك في أسرى حركة حماس، ولكن هذه الحيلة لم تنطلِ على أحد، وعلى العكس تمامًا كان الأسرى القدماء في السجن يقولون: هذه الفترة هي فترة توحيد الحركة الأسيرة، وفي الوحدة قوة".

ما حدثتكم به غيضٌ من فيض عما يحدث داخل الحركة الأسيرة ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023

  • صاحب الحكاية

لم تنتهِ الحكاية بعد، ولم يتدخل الكاتب هنا في شيء، إذ بعض الحكايات تكتب ذاتها، ويتحرر الوحي أكثر من الكلمات، ويتمرد القلم على الورق، إذ هو زمن الإبادة بكل أشكالها، بل زمن الموت المطبق على الشعب الفلسطيني، هي اللحظات الأخيرة قبل قرع الجسد باب القبر، وقبل أن تتحرر الأنفاس من قوقعة الروح، هنا يستعر القلب، ويعدو الإنسان نحو حتفه، هذا الإنسان الذي يحمل رسالة كما رسالة "جورج"، أحد أبطال رواية "كوخ العم توم" للكاتبة "هارييت ستاو"، إذ يقول "جورج" -العبد المملوك لسيده- في رسالته، وهو يتحدث لزوجته": "أنا إنسان بقدر ما هو إنسان، بل إنني خير منه، ولذلك إما أن أحرّر نفسي، وإما أن أموت"!

لعلّ هذا آخر سطورنا، ولكن صاحب الحكاية يقول: "ما حدثتكم به غيضٌ من فيض عما يحدث داخل الحركة الأسيرة ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023".

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان