إن كثيرا من الانعطافات التاريخية في حياة الناس أفرادا وجماعات حصلت خارج الإطار التقليدي لسير الحياة المعتاد، بمعنى أن حدثا غير مألوف طرأ على منظومة رتيبة، فشكل صدمة في إيقاع الأحداث الاعتيادية وصنع تلك الانعطافات. وبما أن في الحياة فرصا قليلة فالكيس من أحسن استغلال الفرصة حينما تتاح، والأكيس منه من بادر بالفكرة والفعل فصنع الفرصة ووظفها في صالحه.
المياه الراكدة تسكنها الخبائث وتتجمع فيه الأقذار، فإذا تحركت تحررت مما داخلها ثم جرت صافية رائقة. وكذلك مياه الأفكار الراكدة تأسن، وتسكنها الهوام الفكرية، وتتجمع فيها قذارة الشبهات، وبمقدار حركتها تطيش عنها دخائل الوهم والوهن
والمبادرة في اللغة تعني المسابقة والمسارعة، وقد دأب الإسلام على تربية أتباعه على المبادرة في طرح الأفكار وفي قول الحق وفعل الخيرات؛ ﴿ سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض﴾ (الحديد:21)، ﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين﴾ (آل عمران:133)، بل إن من صفات المنافقين البرود والكسل والإخلاد إلى الأرض وعدم المبادرة، فالإسلام يريد من المسلم أن يكون إيجابيا في هذه الحياة، باذلا للخير والسعادة، مبادرا في خدمة دينه وأمته، متمردا على مظاهر البلادة والضعف، ثائرا في وجه الاحتلال والاستبداد.
وفلسفة المبادرة قائمة على أن يغتنم الإنسان الفرصة ويستثمر اللحظة ويصنع الثغرة في جدار الجمود. وفي الحديث: (بادروا بالأعمال سبعا، هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)، وفي الحديث الآخر: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك). فالمبادر يستفيد من عناصر القوة والظروف المواتية قبل أن تعاكسه الرياح وتحيطه العوائق. ولكي يكون سباقا مسارعا يجب عليه أن يعمل على تغيير ظروفه بما يخدم أهدافه، لا أن يغير أهدافه وفقا لما تتيحه ظروفه.
ولا شك أن المبادرة مطلوبة على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي، ومجموع المبادرات الفردية تؤسس لولادة المبادرة الجماعية، لذا نلحظ أن الآيات القرآنية التي حثت على المبادرة كانت بصيغة الجمع، لأن المطلوب أن يكون عنصر المبادرة ثقافة مجتمعية وسياسة قيادية، تنقل المجتمع من السكون والرتابة إلى الحركة والتغيير، لا سيما في أمة تتلمس النجاة والانبعاث وسط أزمات خانقة ومؤامرات تتخطفها بين الحين والآخر لتعزز خمولها وترسخ عجزها واستضعافها.
إن المياه الراكدة تسكنها الخبائث وتتجمع فيه الأقذار، فإذا تحركت تحررت مما داخلها ثم جرت صافية رائقة. وكذلك مياه الأفكار الراكدة تأسن، وتسكنها الهوام الفكرية، وتتجمع فيها قذارة الشبهات، وبمقدار حركتها تطيش عنها دخائل الوهم والوهن؛ فتصفو بعد كدر وتجري بعد سكون. وهذا أيضا ينطبق على السلوك الذي اعتاد الموادعة وتجنب المواجهة فحكمته الظروف وتعلل بها عن العمل والحركة. لذا فالمبادرة توفر الوقت وتختصر المراحل، وهي أنجع الوسائل وأسرعها في تكوين القناعات وتحرير المفاهيم وتغيير السلوكيات، لأن ميدان العمل والمدافعة أبلغ في النفوس والعقول من مائة كتاب وألف موعظة.
المبادرة تحسن من ظروفك في المعركة، وتجعلك تختار أفضل البيئات لتنفيذ مخططاتك الاستباقية، وتسمح لإعدادك الطويل أن يعبر عن نفسه في المكان والزمان والهيئة التي تختارها أنت.
ومن زاوية أخرى؛ فالمبادرة كسر لروتين الضعف والاستكانة، وانطلاق نحو إعادة ترتيب مشاهد القوة والضعف، وإشعال للطاقات الكامنة وإيقاظ للعزائم الواهنة. والمبادرة أيضا تغيير لانطباعك أنت أولا عن ذاتك وقدراتك التي كنت تستهين بها، أو التي كنت تجهلها، أو التي خدعوك إذ قللوا من قيمتها وتأثيرها، وهي تغيير لصورتك الذهنية وانطباع الآخرين عنك إذ حسبوك ضعيفا خائر القوى متخبط القرار مهزوز الشخصية، وهي صدمة جديدة لعدوك وبعثرة لأوراقه وتفكيك لمؤامراته وزعزعة لمعنوياته وصفه الداخلي.
والمبادر لا يفرط في مساحة العافية وفسحة اجتماع القوة منتظرا مبادرة العدو، ليكون في موضع ردة الفعل بدل أن يكون صانع الحدث، فالمبادرة تحسن من ظروفك في المعركة، وتجعلك تختار أفضل البيئات لتنفيذ مخططاتك الاستباقية، وتسمح لإعدادك الطويل أن يعبر عن نفسه في المكان والزمان والهيئة التي تختارها أنت. وهذا لا يعني بالضرورة تحقيق التفوق أو النصر الميداني، لكنه يرفع من احتماليته ويعزز من فرصه. وإذا كانت المواجهة حتمية فكن صاحب السبق في فرض ميدانها والتحكم بمجرياتها قبل أن تلطمك المفاجأة فترتبك وتتخبط. وبالتالي فالمبادرة قد تكون في صورة إعداد متعدد في مجالاته مركز في أولوياته، أو في صورة دفاع ذكي يحسب الاحتمالات ويضع لكل سيناريو ما يناسبه من الأسباب، أو في صورة هجوم ساحق وعبور مقدس.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.