شعار قسم مدونات

العلماء والريادة الاجتماعية.. من الشيرازي إلى الددو (2)

الشريعة والحياة في رمضان- مع الشيخ محمد الحسن ولد الددو
رئيس مركز تكوين العلماء العلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو (الجزيرة)

التنويه بموسوعية العلامة الددو وإمامته في العلم والتضحية والإصلاح تحصيل حاصل ومحل إجماع بين المنصفين وذوي النهى، وفي برنامج مفاهيم ومحاورات الألمعي الدكتور عادل باناعمه، ومناقشات الشيخ الجليل الدكتور عبد الحي يوسف من الشواهد على ذلك ما يغني عن كل قول، لكن ثمة ذكريات في باب ثراء "الشخصية الددوية" ينبغي ذكرها والإتحاف بها.

من تلك الذكريات أنه ذات سمر مع بعض الفضلاء والمؤرخين يتقدمهم الأستاذ الثبت والمؤرخ الضليع محمد المختار ولد أحمد "أبو نزار" تذاكرنا أمر الشيخ الددو وما حباه الله به من فضل وعلم وعبادة وخلق وإحسان وتضحية، فكان كل حاضر يطبق القاعدة السبكية المتقدمة؛ فيقول عن الشيخ ما وصلت إليه قواه العقلية ومداركه العلمية.

كان أبو نزار يقول هذا وهو يستحضر الأدوار الريادية للشيخ الددو في المجامع الفقهية، وحضوره البارز في المؤتمرات العلمائية، وغايةُ شيوخ الإسلام فيها أن يكونوا طلابا بين يديه

فبعضهم أعجب بزهد الشيخ وصفاء روحه التي تكاد تلامس السماء، والبعض توقف عند الموسوعية والتفنن وسعة الحفظ، وبعضنا لفت انتباهه تواضع الشيخ ونفعه الناس مع الحلم السابغ وكف الأذى، وبعضهم ذكر مشاهد من العبادة وقيام الليل بعد الأسفار الطويلة والرحلات الشاقة، والبعض ذكر الصبر على الابتلاء ومضاء العزيمة.

وفي أثناء تلك المداولات اعتدل أستاذنا أبو نزار في جلسته وهو صاحب نظرة كلية ومنهج مقارن ورأي حصيف واستقراء قوي للتراجم وتحليل بارع للخفايا، فقال: راجعت تراجم وأخبار العلماء المصلحين من لدن شيخ الإسلام ابن تيمية إلى اليوم فما وجدت بعد أبي العباس من جمع بين العلم الواسع والتفنن وسيلان الذهن، والصدع بكلمة الحق والتأثير الشعبي القوي، والاشتباك الميداني الإصلاحي مع قضايا المسلمين في مختلف الأقطار مثل الشيخ الددو.

كان أبو نزار يقول هذا وهو يستحضر الأدوار الريادية للشيخ الددو في المجامع الفقهية، وحضوره البارز في المؤتمرات العلمائية، وغايةُ شيوخ الإسلام فيها أن يكونوا طلابا بين يديه، كما يستحضر الأدوار الريادية الاجتماعية للشيخ الددو وهو يقود وساطة لأزمة كادت تعصف بين الرئيس الموريتاني السابق وكبار رجال الأعمال عام 2010م، وغيرها من الوساطات الإصلاحية داخل موريتانيا وخارجها التي يقوم بها الشيخ لرضى الأطراف عن علمه وعدالته وحكمته وتجرده ومصداقيته، تلك المصداقية التي تحطمت على صخرها حملات مؤسسات إعلامية مغرضة وممولة دوليا لتشويه سمعته والتحامل عليه من قبل قوى ظلامية أفاكة أثيمة.

حين كتبت هذا خفت أن أكون وهمت في دقة النقل عن أستاذي أبي نزار أو لم أَعِ ما قاله حق الوعي، فكتبت إليه "حيا الله مولانا… أذكر مرة أنكم قلتم لنا إنه لم يأت بعد ابن تيمية في الجمع بين سعة العلم وسيلان الذهن والاشتباك بالميادين الدعوية والإصلاحية كالشيخ الددو.. فهل هذا الرأي مدبر باستقراءات ومقارنات؟"

فكتب إلي يوم 11 ربيع الأول 1445هـ ما نصه: "وحياكم ربنا وبياكم مولانا الموفق؛ ذاك رأيي فيه.. وقد توصلت إليه بعد استعراض تراجم خمسين علما هم الأشهر بين رجال الإصلاح والتجديد (عربا وعجما)، تتابعوا خلال سبعة قرون وفي شتى أقاليم عالم الإسلام الفسيح، ولئن كان بعضهم قد يفوقون الشيخ في منحى من تلك المناحي -وأخرى معها- فإنه يتقدمهم جميعا حين يُتطلب اجتماعها في علم واحد منهم؛ فتلك مزية فارقة للإمام الددو.. والقاعدة قاضية بأن "المزية لا تقتضي التفضيل وربك الأكرم أعلم". وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وللباحث الجاد أن يقارن مقارنة أبي نزار إذا عرف أسماء الخمسين أو بعضهم.

كانت للفقهاء أدوار اجتماعية ريادية في إبقاء حرمة ما للخلافة العباسية التي يتشبث بها المسلمون عنوانا للوحدة ودفاعا عن البيضة

خواطر التاريخ

فمقصودي بالريادة الاجتماعية هو حضور العلماء في الشأن العام دفاعا عن الأمة وقضايا الشعوب والالتحام بالناس في أفراحها وأتراحها، لا سيما في فترات الوهن السياسي وتضعضع الدول، وهو دور مبارك قام به فقهاء المذاهب في القرنين الرابع والخامس الهجريين في عراق العرب والعجم حين ضعفت الخلافة وقويت شوكة السلاطين من البويهيين والسلاجقة.

فقد كانت للفقهاء أدوار اجتماعية ريادية في إبقاء حرمة ما للخلافة العباسية التي يتشبث بها المسلمون عنوانا للوحدة ودفاعا عن البيضة، وهو ما عبرت عنه السفارات ومبادرات الصلح التي قام بها الأئمة أبو بكر الباقلاني سنتي 371هـ و401هـ، وأبو حامد الإسفراييني سنة 400هـ، وأبو الحسن الماوردي في سنتي 434هـ و435هـ ، وأبو إسحاق الشيرازي في سنة 475هـ.

تلك المواقف العظيمة التي قام بها الفقهاء والشيخ الددو دفاعا عن مصالح الأمة وحقوقها بوأتهم منزلة عظيمة في وجدان المسلمين، فكانوا يحتفون بهم احتفاء الشعوب بزعماء تحريرها، فكما يستقبل الإمام الشيخ الددو اليوم باحتفاء جماهيري تتداخل فيه الألعاب الشعبية ومظاهر البهجة الفطرية استقبل أهل سَاوَهْ في القرن الخامس الهجري الإمام أبا إسحاق الشيرازي (ت 476هـ) استقبالا شعبيا باهرا واحتفلوا به احتفالا عظيما حفلت بتفاصيله كتب التاريخ وأسفار التراجم ومصنفات الطبقات.

جاء في الكامل لابن الأثير في أحداث 475هـ أن الخليفة المقتدي بأمر الله أوصل الشيخ أبا إسحاق الشيرازي إلى حضرته، وحمله رسالة إلى السلطان ملكشاه، ونظام الملك، تتضمن الشكوى من العميد أبي الفتح بن أبي الليث، عميد العراق، وأمره أن ينهي ما يجري على البلاد من النظار. فسار فكان كلما وصل إلى مدينة من بلاد العجم يخرج أهلها بنسائهم وأولادهم يتمسحون بركابه، ويأخذون تراب بغلته للبركة، وكان في صحبته جماعة من أعيان بغداد، منهم الإمام أبو بكر الشاشي وغيره".

الشيرازي لقي احتفاء شعبيا ونال حظه كذلك من العناية الرسمية، "فأكرمه السلطان ونظام الملك، وجرى بينه وبين إمام الحرمين أبي المعالي الجويني مناظرة بحضرة نظام الملك

ولئن كانت تلك الاحتفاءات والاحتفالات تمهيدية للاحتفال الأكبر الذي نظمه أهل مدينة سَاوَهْ، فإن الفقيه الشيرازي لما وصلها كما يقول ابن الأثير "خرج جميع أهلها، وسأله فقهاؤها كل منهم أن يدخل بيته، فلم يفعل، ولقيه أصحاب الصناعات، ومعهم ما ينثرونه على محفته؛ فخرج الخبازون ينثرون الخبز، وهو ينهاهم، فلم ينتهوا، وكذلك أصحاب الفاكهة، والحلواء، وغيرهم، وخرج إليه الأساكفة، وقد عملوا مداسات لطافا تصلح لأرجل الأطفال، ونثروها، فكانت تسقط على رؤوس الناس".

ويضيف المؤرخ الجزري راصدا مظاهر هذا الاحتفال وصداه عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي الذي كان "يتعجب، ويذكر ذلك لأصحابه بعد رجوعه، ويقول: ما كان حظكم من ذلك النثار؟ فقال له بعضهم: ما كان حظ سيدنا منه، فقال: [أما] أنا فغطيت بالمحفة، وهو يضحك". أضحك الله سنه في أعلى الفراديس.

وكما لقي الشيرازي الاحتفاء الشعبي فإنه نال حظه من العناية الرسمية، "فأكرمه السلطان ونظام الملك، وجرى بينه وبين إمام الحرمين أبي المعالي الجويني مناظرة بحضرة نظام الملك، وأجيب إلى جميع ما التمسه، ولما عاد أهين العميد (وكسر عما كان يعتمده)، ورفعت يده عن جميع ما يتعلق بحواشي الخليفة". (الكامل في التاريخ 8/284).

ومدينة ساوه التي احتفل أهلها بالشيرازي وصحبه كانت من قلاع السُّنة التي زارها ياقوت الحموي ووصفها وصفا جميلا ثم نعاها بعد قدوم التتار وبكى مكتبتها الفريدة فقال في معجم البلدان: "ساوه مدينة حسنة بين الري وهمذان في وسط، بينها وبين كل واحد من همذان والري ثلاثون فرسخا، وبقربها مدينة يقال لها آوه، فساوه سنّيّة شافعية، وآوه أهلها شيعة إمامية، وبينهما نحو فرسخين، ولا يزال يقع بينهما عصبية، وما زالتا معمورتين إلى سنة 617 فجاءها التتر الكفار الترك فَخُبّرت أنهم خربوها وقتلوا كل من فيها ولم يتركوا أحدا البتة، وكان بها دار كتب لم يكن في الدنيا أعظم منها، بلغني أنهم أحرقوها". (معجم البلدان ج3/179).

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.



إعلان