أثارت جولة شيخنا زينة العصر وعلامة العالم الإسلامي، الشيخ الإمام محمد الحسن ولد الددو حفظه الله، بالمناطق الشرقية في موريتانيا، الأسبوع الماضي، واحتفاء الأهالي به، كثيرا من الذكريات الشخصية والخواطر التاريخية لدي، وجددت النقاش بشأن بعض المقترحات التي أتداولها أحيانا مع بعض الأصدقاء وطلاب الشيخ حول الطريقة المثلى لمواصلة استفادة العالم الإسلامي وطلاب العلم من المدرسة الددوية في الجمع بين النبوغ العلمي الشامل، والتبتل والإنابة والجلد على العبادة والدعوة والتعليم والإصلاح، والريادة الاجتماعية، وسمو الأخلاق وسماحة النفس، والقوة في الحق، والرحمة بالناس.
احتلت محاضرته في قريتنا منزلة خاصة في قلوبنا فهي تخاطبنا وتعالج إشكالياتنا مثل مواقف الناس حينها من الدعوة والدعاة، وحين عدت في الخريف كان حديث الشباب والطلاب كله عن زيارة الشيخ الددو
ذكريات السمع والبصر
نهاية القرن الميلادي الماضي وسنوات من صدر القرن الحالي، كان الشريط الإسلامي أداة تواصل ناجعة ربطت أجزاء العالم الإسلامي بعضها ببعض، وكانت المكتبات الصوتية في القرى والمدن الموريتانية كغيرها تصدح بمواعظ تربوية ودورس علمية لكثير من شيوخ الدعوة ورواد الوعي الإسلامي المبارك لا سيما من دول الخليج والشام ومصر، وكان من تلك الأشرطة تسجيلات لعلامة موريتاني شاب متميز كاسمه، يتكلم بفصاحة وانطلاق غير معهودين في قُطر يتكلم أهله ببطء، ويشرحون معضلات العلوم وغرائب اللغة باللهجة العامية غالبا.
وكان اسم الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي هو ذلك الاسم المميز المكتوب على بعض تلك الأشرطة التي نتسامر عليها في قرانا الوادعة، ونسمع في الأخبار التي تصلنا عنه أنه ابن أخت العلامة الشيخ محمد سالم ولد عدود الذي كنا نأنس بصوته الفصيح الهادئ في الإذاعة الوطنية ودروسها الرمضانية.
ونهاية صيف عام 1999 أو 2000 ميلادية سافرت من القرية إلى البادية للمساعدة في رعاية البقر، وكان أهم حدث جرى بعدي، في تلك السفرة المخشوشنة، هو زيارة الشيخ محمد الحسن ولد الددو للقرى التي نشأت فيها وبعض القرى المجاورة في زيارة فضيلته الحافلة حينها للمناطق الموريتانية الشرقية.
واحتلت محاضرته في قريتنا منزلة خاصة في قلوبنا فهي تخاطبنا وتعالج إشكالياتنا مثل مواقف الناس حينها من الدعوة والدعاة، وحين عدت في الخريف كان حديث الشباب والطلاب كله عن زيارة الشيخ الددو، وعن صفته وعلمه وفتوته وتواضعه وأخلاقه، وكان النساء يبتهلن سرا وجهرا أن يجعل الله أبناءهن مثل الشيخ الددو.
ومع نهاية عام 2000، كان منبر الذكر وقاعات جمعية الحكمة في نواكشوط موردا عذبا زلالا للشباب وطلاب العلم يزدحمون فيهما على مجلس الشيخ ويتسابقون إلى محاضراته، وقد شكل بتأثيره القوي ككل العلماء الأفذاذ ظاهرة شبابية تحاكيه في السمت والملبس وطريقة الكلام، وأذكر أن أول سقف جمعنا كان يوم 18 مايو/أيار 2001 في مجمع أسامة بن زيد، وسبب تذكر هذا التاريخ أنه أثناء المحاضرة جاءه نعي الدكتور النابغة جمال ولد الحسن رحمه الله.
وكان أول خبر سمعته عن نبوغ شيخنا الددو في طفولته هو ما حدثني به العلامة محمدن ولد محمد عبد الله ولد الواثق الملقب باطفيل التندغي المالكي رحمه الله في محظرته بقرية المراد يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 2002، فقد زرته رفقة عدد من طلاب محظرة التيسير، وقد أتعبناه بالأسئلة عن علماء البلد ومميزاتهم.
وقال فيما حدثنا به عن نبوغ الشيخ الددو المبكر أن آل عدود أخوال الشيخ نزلوا ذات مرة قريبا من خيامهم، وأن من عادة الناس حينها كتابة قصائد ترحيبية بالنازلين قريبا منهم، وقد قال العلامة ابن الواثق قصيدة ترحيبية لكنه لم يجد ورقة يكتبها عليها، وورد الآبار المشتركة لعله يجد ورقة يدون فيها القصيدة ومن يرسلها معه إلى آل عدود.
فقال ابن الواثق إنه لم يجد ورقة لكتابة القصيدة لكنه وجد أطفالا قادمين من جهة آل عدود، وأخبرهم أن عنده قصيدة يود إرسالها معهم إذا وجد ورقة، فقال له أحد الأطفال قلها وستصلهم، فأنشد ابن الواثق القصيدة وأعادها الددو كما أنشدها صاحبها، وحكى ابن الواثق لنا هذه الحكاية حين رأى إعجابنا بحفظ الشيخ الددو، وأضاف مثلا شعبيا معناه أن "حدة الشوك تبدأ من الصغر"، وأشار فيما أشار إليه ابن الواثق أن الددو ورث عبقرية وهمة جده وشيخه محمد عالي ولد عدود وأبنائه العلماء.
ومن خبر حفظ الشيخ الددو وحضر دروس العلامة محمد سالم ولد عدود عرف مقدار سعة ذلك الحفظ وحقيقة تلك العبقرية وفرادتها لا سيما في سعة العلم والأخلاق والإنابة والريادة، ومناقب الشيخ محمد عالي التي نظمها الشيخ الددو تجد تجلياتها في الشيخ نفسه، وفي خاله محمد سالم، فهي سلسلة علم وسمت متوارثة فيها من أثر العلامة المؤثر يحظيه ولد عبد الودود وأشياخه ما فيها، مع ما منّ الله به على الشيخين من روافد أخرى سنية من مكتبات وافرة وتجارب كثيرة وأسفار بعيدة ولقاءات مع الأعلام والعلماء عديدة، وكسب عميق شامل في الدعوة والإصلاح.
وكان أول لقاء مباشر لي مع الشيخ سنوات اعتقاله بالسجون الموريتانية بين 2003-2005؛ ففي إحدى مرات إطلاق سراحه رافقت وفدا من طلاب محظرة "تندغماجك" إليه للسلام عليه وتهنئته في قرية أم القرى، ومما لفت الانتباه حينها كرم الشيخ وخدمته الناس بيده، وحسن أخلاقه، فكان كل طالب وزائر كأنه من خاصة الشيخ مع كثرة الوفود والزائرين، هذا مع الإجابات الوافية الشافية عن الأسئلة المتشعبة من لدن مستفتين متثبتين وطلاب فضوليين يقيسون بأسئلتهم المتنوعة موسوعية العلماء ويقارنون من خلال أجوبتهم بين علومهم وأفهامهم.
المقارنة بين العلماء ليست بدعة محظرية وإنما هو منهج قديم لإنزال الناس منازلهم وتمييز الطبقات، وإعطاء كل ذي حق حقه، وقد اهتم بها المؤرخون وكتاب التراجم
البحر وقوى الإدراك
بعد الأسئلة والمقارنات والاستماع إلى دروس الشيخ وشروحه وسلاسله في العلوم الشرعية، أجمعنا في المحظرة أن نظراء الشيخ الددو في التبحر في العلوم قليل، وهي حقيقة أكدها الواقع ولم يزدها تطور الإدراك وملاقاة الناس شرقا وغربا، وتتبع الفتاوى والمفاجأة بالأسئلة والمثاقفة في النقاش إلا يقينا ورسوخا.
ومعنى التبحر العلمي هذا في حضارتنا عميق جدا في القياس والمقارنة، فالعلم ماء زلال والعلماء كالمحيطات امتلاء ومدا وجزرا، وقد حدث الأعمش: عن مجاهد، قال: "كان ابن عباس يسمى البحر؛ لكثرة علمه"، كما في سير أعلام النبلاء 3/ 350، فرب عالم تراه كالبحر الغطمطم ترد وترد فما يزيده ذلك إلا امتلاء وبعضهم دون ذلك حتى تصل لقارورة الماء.
فالمقارنة بين العلماء ليست بدعة محظرية وإنما هو منهج قديم لإنزال الناس منازلهم وتمييز الطبقات، وإعطاء كل ذي حق حقه، وقد اهتم بها المؤرخون وكتاب التراجم، وجعل تاج الدين السبكي ووالده التقي لها قاعدة طريفة مبنية على مذهبهما في إجلال القدماء وعجز اللاحق عن إدراك حقيقة السابق بله اللحاق به.
ونقل تاج الدين السبكي في ترجمة حجة الإسلام الغزالي عن أسعد الميهني أنه قال: "لا يصل إلى معرفة علم الغزالي وفضله إلا من بلغ أو كاد يبلغ الكمال في عقله"، وعلق السبكي على هذا الرأي بقوله:" قلت يعجبني هذا الكلام فإن الذي يحب أن يطلع على منزله من هو أعلى منه في العلم يحتاج إلى العقل والفهم فبالعقل يميز وبالفهم يقضي، ولما كان علم الغزالي في الغاية القصوى احتاج من يريد الاطلاع على مقداره فيه أن يكون هو تام العقل".
ويضيف التاج: "وأقول لا بد مع تمام العقل من مداناة مرتبته في العلم لمرتبة الآخر، وحينئذ فلا يعرف أحد ممن جاء بعد الغزالي قدر الغزالي ولا مقدار علم الغزالي إلا بمقدار علمه، أما بمقدار علم الغزالي فلا، إذ لم يجيء بعده مثله ثم المداني له، إنما يعرف قدره بقدر ما عنده لا بقدر الغزالي في نفسه".
وقد نقل التاج السبكي هذه القاعدة عن والده الإمام تقي الدين السبكي، فقد سمعه يقول: "لا يعرف قدر الشخص في العلم إلا من ساواه في رتبته وخالطه مع ذلك، قال وإنما يعرف قدره بمقدار ما أوتيه هو، وكان يقول لنا لا أحد من الأصحاب يعرف قدر الشافعي كما يعرفه المزني.. قال وإنما يعرف المزني من قدر الشافعي بمقدار قوى المزني والزائد عليها من قوى الشافعي لم يدركه المزني".
ويقول التاج: "وكان يقول لنا أيضا لا يقدر أحد النبي صلى الله عليه وسلم حق قدره إلا الله تعالى، وإنما يعرف كل واحد من مقداره بقدر ما عنده هو، قال فأعرف الأمة بقدره أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنه أفضل الأمة، قال وإنما يعرف أبو بكر من مقدار المصطفى صلى الله عليه وسلم ما تصل إليه قوى أبي بكر وثم أمور تقصر عنها قواه لم يحط بها علمه ومحيط بها علم الله". طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 6/ 203.
فمن ذا الذي لديه علم الشيخ الددو أو جزء منه ليدرك حقيقة علمه، وسنبين تجليات ذلك وأهمية الاستفادة منه في الجزء الثاني من المقال مع الخواطر المنوه بها أعلاه وبقية اللقاءات والتتلمذ عليه.. فحفظ الله شيخنا الددو وأبقاه ذخرا لأمة الإسلام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.