الابتلاءات والمحن من سنن الله في خلقه، ليعلم -علم ظهور- من يتحمل مرارة الصبر ومشاق البلاء، فيرفعه درجات في الدنيا والآخرة، وقد بشر الله الصابرين بما يقر به أعينهم في الدنيا والآخرة، فقال: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 155 – 157]، وذكر لنا سبحانه أن الإمامة في الدنيا والدين ما تنال إلا بالصبر واليقين، فقال: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة: 24].
وشاءت حكمة الله تعالى أن يبتلي عبده ورسوله إبراهيم -عليه السلام- بكلمات فنجح نجاحا عظيما.
قام إبراهيم -عليه السلام- بالكلمات الشرعية وأتمها ووفاها وصبر على القدرية واحتسب
قال تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}
يقول الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم اذكر ما كان من ابتلاء إبراهيم بكلمات من الأوامر والتكاليف، فأتمهن وفاء وقضاء، وقد شهد الله لإبراهيم في موضع آخر بالوفاء بالتزاماته على النحو الذي يرضى الله عنه فيستحق شهادته الجليلة {وإبراهيم الذي وفى}، وهو مقام عظيم، ذلك المقام الذي بلغه إبراهيم، مقام الوفاء والتوفية بشهادة الله عز وجل، والإنسان بضعفه وقصوره لا يوفي ولا يستقيم. (في ظلال القرآن، سيد قطب، 1/112)
فقد قام إبراهيم -عليه السلام- بالكلمات الشرعية وأتمها ووفاها وصبر على القدرية واحتسب، فمن الأمور الشرعية ما صح عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسيره هذه الآية قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد؛ خمس في الرأس: قص الشارب والمضمضة، والاستنشاق والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء، ومن ذلك أيضا: الإسلام، والحج، والإحرام، والطواف، والسعي ورمي الجمار. (تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، دار العبيكان، الرياض، ص 215)
وغير ذلك من التفاسير والرأي الذي قال به الدكتور عبد الحليم محمود مستندا إلى الإمام الحسن البصري: هو ما أمره الله تعالى بشيء إلا وفى به. (قصص الأنبياء في رحاب الكون، د. عبد الحليم محمود، ص 30)
شهد الله لخليله بأنه أتم الالتزام بالكلمات وأتم أداء التكاليف والواجبات
{وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}
وقد نجح إبراهيم -عليه السلام- في ابتلاءات عديدة بفضل الله تعالى منها:
- نجح إبراهيم عليه السلام في ابتلاء الدعوة، عندما دعا أباه وقومه وحاكم قومه.
- نجح الخليل في ابتلاء المواجهة؛ عندما واجه الكفار وثبت على الحق.
- نجح في ابتلاء الهجرة عندما هاجر للأرض المقدسة.
- نجح في ابتلاء الفراق عندما وضع زوجه وابنه في واد غير ذي زرع.
- نجح في ابتلاء التضحية عندما نفذ رؤياه بذبح ابنه، لولا أن الله فداه.
- نجح في ابتلاء الكرم والضيافة.
- نجح في ابتلاء بناء البيت.
- نجح في ابتلاء العبادة والذكر والشكر والتوبة وسنن الفطرة والاختتان والدعاء.
- نجح في ابتلاء الولاء والبراء والمفاضلة للأعداء.
- نجح في ابتلاء الإمامة والريادة والقدوة.
وتدخل في الكلمات -التي كلف الله إبراهيم عليه السلام بها- ما تشمله من أوامر ونواه وأحكام وواجبات سواء ما يتعلق منها بالعقيدة أو العبادة أو الدعوة أو الأخلاق أو غير ذلك.
{فأتمهن}: أي: أداهن أحسن التأدية وقام بهن حق القيام من غير تفريط ولا تقصير ولا تأخير، فقام بالكلمات الشرعية ووفى بها وصبر على القدرية، واحتسب وصبر على طاعة الله، وعلى أقدار الله. ولذلك رفع الله منزلته، وكافأه على ذلك في الدنيا والآخرة. (القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، 1/441).
وبهذا شهد الله له بأنه أتم الالتزام بالكلمات وأتم أداء التكاليف والواجبات {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}، ولعل السبب في نجاح إبراهيم في الابتلاء والباعث له على أداء وإتمام الكلمات والواجبات، هو قوة صلته بالله، وسلامة قلبه من الآفات والنقائص وامتلاؤه بالإيمان والإحسان حيث أثنى الله على إبراهيم بقوله: {وإن من شيعته لإبراهيم (83) إذ جاء ربه بقلب سليم (84)} [الصافات:83-84]، ولما نجح إبراهيم في ابتلاء الله وأتم الكلمات، أكرمه الله بأن جعله إماما للناس. (القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، 1/442).
الإمامة للناس التي أكرم الله إبراهيم بها جاءت بعد نجاحه في الابتلاء، وإتمامه للكلمات، وهذا دليل على أن الإمامة لا تأتي إلا بعد نجاح في العمل وأداء الواجبات
قوله تعالى: {قال إني جاعلك للناس إماما}
والإمام هو الذي يأتم به الناس، ويقتدون به في الخير ويتأثرون به، ويتخلقون بأخلاقه ويهتدون بهديه.
قال الإمام الراغب: الإمام هو: المؤتم به، إنسانا: كأن يقتدى بفعله أو قوله، أو كتابا أو غير ذلك، سواء كان محقا أو مبطلا، وجمعه أئمة. (المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص24)
والإنسان الصالح إمام وقدوة في الخير، قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة:24]، وجعل الله إبراهيم (عليه السلام) إمام هدى للناس، كل الناس على اختلاف الزمان والمكان: {قال إني جاعلك للناس إماما}، وبقي إبراهيم إماما لمن بعده من المؤمنين، كان إماما لمؤمني بني إسرائيل وإماما لمؤمني النصارى، وصار إماما للمسلمين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ومازال إماما لهذه الأمة وسيبقى إماما لها، ما دامت هذه الأمة باقية، إن إبراهيم (عليه السلام) إمام دعوة، ومنار هدى، ومعلم عقيدة، ونور طريق منذ وجوده وحتى قيام الساعة. (القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، 1/443).
وجعله الله إمامًا للناس وهيأ له حياة غنية بالتجارب الإنسانية؛ لتكون نماذج حية يحتذي بها كل من يوجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا مسلمًا، وهذا معنى عالمية دعوة خليل الرحمن (عليه السلام)؛ لقد كان إمامًا في كل دقيقة من دقائق حياته، يسجل للناس قواعد خالدة في معاشهم ومعادهم، يفيؤون إليها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إن الإمامة للناس التي أكرمه الله بها جاءت بعد نجاحه في الابتلاء، وإتمامه للكلمات، وهذا دليل على أن الإمامة لا تأتي إلا بعد نجاح في العمل وأداء الواجبات، فطريق الإمامة ليس سهلا ولكنه شاق يحتاج إلى جهد ومجاهدة، وصبر ومصابرة وتحمل المشقة والتعب.
إن من يعيش على هامش الحياة لن يكون إماما، وإن من يعيش مع توافه الحياة لن يكون إماما، وإن من يعيش كسولا أنانيا لا مباليا لن يكون إماما. فللإمامة رجالها، وروادها الأولياء وصالحوها الأوفياء، وإمامهم إبراهيم أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام. (القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، 1/443).
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.