التقاعد مرحلة من مراحل الحياة قد تكون الأكثر صعوبة إذا لم يتم التخطيط والاستعداد لها جيدا، مرحلة التقاعد ينبغي أن تكون الأجمل في حياة الإنسان والأكثر سلاما واستقرارا وتوازنا، فيها يستثمر الشخص عصارة معارفه وتجاربه وخبراته.
هي مرحلة تفترق فيها الطرق والاتجاهات وقد يحتار المتقاعد ماذا يمكنه أن يفعل، أين يمكنه أن يكون مفيدا ومستفيدا، يقول في نفسه كيف أجعل لحياتي معنى مختلفا وذا قيمة، كيف أترفع وأرتقي وأنا دون وظيفة، كيف أبني على إنجازاتي السابقة ولا أدعها تذهب هباءً منثورا، كيف أكون منجزا وفعالا وذا تأثير وأنا متقاعد، ما المؤسسة التي ستتبناني، هل سأحقق الأمن والأمان وراحة البال وأنا متقاعد، هل سألقى التقدير والاحترام اللازمين، هل التقاعد نعمة أم نقمة؟
التقاعد نعمة كبيرة، ومرحلة يتوج المتقاعد عمره كله بأفضل الأهداف والخيارات والإنجازات، فيها يحتفل المتقاعد بتعبه وسعيه الطويل في الحياة، هي علامة فارقة في حياة المرء، تَخرَّج من المدرسة ليدخل الجامعة وتخرج من الجامعة ليدخل سوق العمل، وما بين هذا وذاك يتفاعل ويتعارك مع أحداث الحياة وأصناف من الناس، يتطور ويتغير ويؤثر ويتأثر، ليتخرج من مدرسة الحياة إلى عالم التقاعد الذي يخصه، وعندما يصل لنقطة التقاعد الفاصلة يبدأ يستعصر أفضل وأجود ما في جعبته ليزين بها حياته وحياة الآخرين.
تطور الشخصية لا يقف عند حد، ولا ينتهي عند زمن، ثبت حتى بعد مفارقة الروح للجسد
محصلة الشخصية
يتخرج المتقاعد من مدرسة الحياة وقد تشكلت شخصيته بفعل عوامل متعددة ومختلفة، تتفاعل هذه العوامل داخل شخصية المرء بشكل حيوي ومعقد، وقد تحدث تأثيرات متبادلة ما بين هذه العوامل وذات الإنسان، بسبب تداخل هذه العوامل مع بعضها بعضا، منها العوامل الوراثية التي تحدد الميول والرغبات والسلوكيات بنسبة لا بأس بها، والعوامل الثقافية وما يحمله الفرد من قيم وتوجهات ومعتقدات ومعارف ومهارات وقدرات وإمكانيات، وما لديه من استعدادات نفسية وعقلية تحدد سماته الشخصية إلى حدٍّ كبير، مثل الاستقلالية ومدى القدرة على الصبر والتحمل والمقاومة والمثابرة والجد والاجتهاد.
ولعل الافعال والخيارات والعادات التي يتبناها الإنسان خلال حياته تلعب دورا كبيرا في تشكيل شخصيته واهتماماته. هناك أيضا العوامل البيئية والتي تتمثل في العائلة والمجتمع والتأثيرات الاجتماعية، والثقافية الموروثة منها والمكتسبة، وكل حدث أو موقف يمر به الإنسان منذ طفولته يترك بصمته بداخله وبحسب طريقة تفاعله معه، وهكذا تتحدد هوية وشخصية كل فرد وبشكل خاص تصبح هي بصمته في الحياة التي تميز طابعه عن غيره. والنظام التعليمي الذي ينخرط فيه الشخص، وطريقة التنشئة التربوية والاجتماعية يلعبان دورا كبيرا في تحديد معالم شخصيته، واتجاهاته، وثقافته، وأهدافه.
هل سيتوقف نمو وتطور شخصية المتقاعد؟ لا بالعكس ستنطلق حرة، تجوب الأماكن والأزمنة والأشخاص لتقدم الأفضل في حياة مشحونة بالتحديات والمتناقضات والمتطلبات، تستمد الحلول والإلهامات من خزينة السنين والتجارب، هي حياة مستجدة وحافلة بالعطاء، هذا هو الأوان ليحقق المتقاعد ذاته ويعمر في الأرض مستفيدا من خلاصة ما مضى.
إن تطور الشخصية لا يقف عند حد، ولا ينتهي عند زمن، ثبتٌ (أمرٌ مقررٌ) حتى بعد مفارقة الروح للجسد، تبدأ الذاكرة تستعرض كل حياة المتوفى بنشاط مفرط وحيوية مبهرة (فبصرك اليوم حديد)، ولا نستطيع فصل نمو الوعي الذاتي والخارجي للفرد عن نمو الشخصية، كلاهما يسيران جنبا إلى جنب للوصول بالفرد لحالة فريدة من التوازن والمصالحة والسلام، حالة صحية سليمة تنتج ولا تعطل، تتفاعل وتتأثر وتؤثر بطريقة سليمة ومجدية.
إن تطور شخصية الإنسان هي عملية مستمرة مدى الحياة، تتميز بالديمومة والتغير، حركتها ديناميكية تمر بمراحل وأطوار، ولها مسارات، وتتفاعل شخصية الفرد مع عوامل مختلفة خارجية وداخلية لينشأ عنها تحول جديد في الأفكار والمشاعر والأحاسيس والسلوكيات والتصرفات، منتجة في النهاية "الشخصية" كما نراها بكل سماتها وأبعادها.
رؤية الشخص هي البوصلة التي توجه أفكاره وخططه وأهدافه، قاعدتها ثقافة الشخص وخلفياته المعرفية وتجاربه، ومنظومة المعتقدات والقيم والأخلاق، هي المحرك والباعث على التحرك نحو الهدف وتنفيذه
الرؤية أساس
قبل البدء بالتخطيط لمرحلة التقاعد على المتقاعد أن يحدد رؤيته الشخصية استنادا لمحصلة التجارب والخبرات والمعارف، وبحسب مستوى ونوعية نمو وتطور شخصيته، والرؤية كائن حي مثلها مثل الشخصية تتطور وتتغير وتتأثر بالعوامل البيئية والوراثية والثقافية والعمليات الإنمائية سواء البيولوجية أو النفسية أو العقلية.
رؤية الشخص هي البوصلة التي توجه أفكاره وخططه وأهدافه، قاعدتها ثقافة الشخص وخلفياته المعرفية وتجاربه، ومنظومة المعتقدات والقيم والأخلاق، هي المحرك والباعث على التحرك نحو الهدف وتنفيذه. الرؤية تحدد وجهة الأنشطة والاهتمامات وحتى المهام والمسؤوليات، وتضع القواعد والحدود لمعايير الدوائر الاجتماعية والإنسانية.
عندما تكون الرؤية ماثلة أمام عيني صاحبها صباحا ومساءً يسهل عليه التخطيط ليومه، ويسير قدما بخطى ثابتة نحو تحقيق الخطط المتوسطة والبعيدة الأجل، هو شخص منظم ويعرف ما يريد، ويعرف احتياجات محيطه المجتمعي، وينفذ خططه ضمن خط زمني لا توجد عليه شمَّاعة الأخطاء ولا التكاسل ولا التباطؤ ولا التأجيل، هو شخص ماضٍ في حركته، لا يعول على الظروف ولا الأشخاص، عقل وتوكل على ربِّ العباد مدبر الأسباب والأحوال، أحلى مكافأة يتلقاها شهادة "الإنجاز".
إذن الرؤية هي المحور الذي تدور عليه حياة المرء والتي تمده بقدرات عالية من التركيز والتنظيم والسعي المستمر وعدم التشتت والتراخي.
هذه مقدمة لتهيئة الذهن والنفس لما يتوجب عمله في فترة التقاعد، حتى الآن تم عرض بعض الأسس التي تفيد المتقاعد في تحديد وجهته في المرحلة المقبلة، وهذه السطور هي وسيلة لكي يتمعن الشخص المتقاعد في ذاته واحتياجاته وأهدافه وعلاقته بمجتمعه والعالم من حوله، نأمل أن يتفكر ويتأمل المتقاعد في حياته الماضية والمستقبلية ليتمكن من تحديد حركته الحاضرة وتوسيع مداركه الذاتية، وتحديد رؤيته الشخصية.
في المقال المقبل بإذن الله سنعرض مقترحات لخطط قابلة للتنفيذ على أرض الواقع، تلبي احتياجات المتقاعد ومجتمعه بناءً على ما ذُكِر، وستتوزع على مستويات تشمل 3 محاور رئيسية: النفس والمجتمع والعالم، أملاً في جعل حياة المتقاعد تزخر بالحيوية والطاقة والعطاء، يتوج فيها المتقاعد عمره بالإنجاز والعمل والإعمار.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.