شعار قسم مدونات

في البيئات التربوية.. ديمقراطية اللاديمقراطية (1)

2ميدان - التربية الايجابية
المحرك الرئيسي للحصول على توازن بين حرية التعبير والتزام الأدب هو تقوية التواصل مع الأبناء باستخدام مهارات الحوار (مواقع التواصل)

"ديمقراطية اللاديمقراطية" هي الديمقراطية التي يتعامل بها الأفراد في المجتمع مع بعضهم البعض، بعيداً عن إطارها الحوكمي، هي "الديمقراطية" التي تحمل في طياتها كل المعاني التي تطورت عبر الأجيال بفعل القوى والتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية والعلمية، وما جاد عليها الفقهاء من مختلف العلوم والضروب، وارتبطت بمعناها الحقيقي الأصلي، هي الديمقراطية التي مازالت تنبض في شرايينها روح القيم والفضائل والأخلاق، هي ديمقراطية السلوك والموقف الذي يخدم مصلحة الفرد والجماعة بدون تعارض، هي الديمقراطية التي ينبغي أن يتمثلها أفراد المجتمع موازاةً مع الأنظمة، لنحقق توافقية ناعمة ما بين ما يقوم به المواطن وما يرنو إليه النظام.

نحن بحاجة لتنمية معالم وسمات "الشخصية الديمقراطية" في الأفراد بمجتمعاتنا لتُمَارس بشكل اعتيادي وتلقائي من قبل الجميع

الشخصية الديمقراطية

نحن بحاجة لتنمية معالم وسمات "الشخصية الديمقراطية" في الأفراد بمجتمعاتنا لتُمَارس بشكل اعتيادي وتلقائي من قبل الجميع، يتعامل فيها المربي والمتربي، الرئيس والمرؤوس، الخادم والمخدوم، مع بعضهم البعض بنفس المبادئ والأسس تحقيقاً لمعاني الحرية والمساواة والمشاركة، واتخاذ القرارات والتقيد بالقواعد والقوانين، وإعلاءً للعدالة الاجتماعية، وترسيخاً للحقوق والواجبات، وسعياً وراء الصالح العام المشترك.

"ديمقراطية اللاديمقراطية" في التعليم

بشكل عام، وبغض النظر عن أي النماذج الديمقراطية نتكلم، يجدر بنا أولاً أن نُعَلّم الأفراد قيم ومعاني الديمقراطية، ليجسدوها في مواقفهم وسلوكياتهم عن طريق تبني نماذج تعليمية تتراوح ما بين أولاً: "التدريب" على عادات الديمقراطية، ويتم ذلك عن طريق نقل المعلومات من خلال مناهج واضحة مصممة خصيصاً لتطوير السلوكيات والمواقف التي تتفق مع روح الديمقراطية وجوهرها، باستخدام التجربة والتطبيق. ثانياً: "المواجهة المباشرة" مع الواقع الاجتماعي السياسي، بهدف تنمية القيم الديمقراطية واستيعاب مواقفها المختلفة، عن طريق تعريض الطلاب وإدماجهم في قضايا ومسائل اجتماعية تنبثق من واقعهم المعيشي.

يمتد دور الأفراد في إحداث تأثيرات نوعية إيجابية في المجالات الثقافية، والاجتماعية السياسية، والاقتصادية، خلال مسيرتهم المهنية والثقافية

المخرجات

ينتج عن تعلُّم الأفراد معاني وسلوكيات وأخلاقيات الديمقراطية تجسيداً لمفهوم "المواطنة الصالحة" بشكل عملي، وتظهر جلياً بعد تخرجهم من المدارس عندما ينخرطوا في مجتمعاتهم سواء التعليم العالي أم التعليم المهني أم سوق العمل، ليؤدوا أدواراً متعددة تتطلب مهارات وكفاءات عصرية، تتوازن فيها الحقوق والواجبات والمهام، ويمتد دور الأفراد في إحداث تأثيرات نوعية إيجابية في المجالات الثقافية، والاجتماعية السياسية، والاقتصادية، خلال مسيرتهم المهنية والثقافية، حيث يجد الخريج نفسه يُواجه في الحياة خبرات مشابهة لما تعلمها في المدرسة، فتتشكل لدى الفرد خبرات تعليمية بنائية تراكمية في مختلف مواقف حياته، تُسْهم في تطور خبراته الشخصية وعلى صعيد العلاقات، وتُثري فهمه للحياة وكيفية التفاعل معها، لأن أسلوب التعلم المتبع في المدرسة "ظرفي واقعي" مبني على علاقات اجتماعية يشترك فيها أشخاص من مختلف الفئات العمرية والخبرات، وهكذا يكتسب الفرد مهارة التعلم مدى الحياة، ويكون عنصراً إيجابياً مُؤثراً في محيطه.

من معالم "التربية الديمقراطية الوالدية " التركيز على شرح القواعد والقوانين، وأهميتها وفائدتها في حياتنا، ومساعدة الطفل على استيعابها كلما خرقها بدلاً من معاقبته

الديمقراطية الوالدية

لا يقتصر تطبيق الديمقراطية فهماً وسلوكاً في المدارس، بل البيوت أيضاً لها النصيب الأكبر في هذا، "الديمقراطية الوالدية" تتلألأ في أوج معانيها عندما يُعامل الوالدان أبنائهما بالعدل والمساواة المبني على الاحترام والكرامة، وتتجلى هذه القيمة عندما يُعطي الوالدان المجال لأطفالهما ليختاروا ما يناسبهم، بحسب الفئة العمرية ومرحلة التعلم والنمو، وعلى الأطفال أن يتحملوا مسؤولية اختياراتهم.

ولكي يُدرك الطفل مسؤوليته تجاه خياراته وتبعاتها، ينبغي إبقاء حبل التواصل معهم حيوياً وقوياً للتثقيف والتوعية، ولتفعيل مبدأ الرقابة الذاتية لدى الطفل، وللتدرب على إمكانية التعديل والتطوير بعد المراجعة والمحاسبة.

ومن معالم "التربية الديمقراطية الوالدية " التركيز على شرح القواعد والقوانين، وأهميتها وفائدتها في حياتنا، ومساعدة الطفل على استيعابها كلما خرقها بدلاً من معاقبته. والمربي الديمقراطي لا يترك فرصة يقوم فيها الطفل بعمل مستحسن إلاَّ ويكافئه عليه، فكيف يُمكن للطفل أن يلتزم باتباع القوانين إذا لا نثني عليه في كل مرة يختار فيها الفعل الجيد الموافق للقاعدة أو القانون المتفق عليه، بالمقابل العقاب بخرق القانون ينبغي أن يكون مخففاً ويرتبط بالهدف التربوي ليكون مجدياً. الأم/الأب الديمقراطي يتجاوب مع احتياجات طفله ويحفزه دوماً ليحقق أهدافه، وبالمقابل يترك المجال لطفله ليختار أموراً تتعلق بحياته اليومية مثل لون الثياب أو ما بين أطعمة مفيدة، ونُعوِّد الطفل على أن يكون مسؤولاً عن نتائج اختياراته، وهذا مبدأ مهم يتفق مع الإيجابية والمساواة/العدالة، وحتى تُبنى شخصيته مع الوقت على الاستقلالية والاعتماد على النفس، بمعنى لا يتم فرض رأي معين على الطفل من قبل أبويه، مع مراعاة الفئة العمرية ومرحلة النمو والقدرات، ويتم احترام رأي الطفل ولو اختلفنا معه. ولعل الرابط الأهم في المعالم السابق ذكرها، هو تعزيز مهارة الحوار البنَّاء، الحوار المُفْعَم بأجواء الحب والدفء والتفاهم والتعاطف، الحوار هو الأداة التي تغرس المعاني المتضمنة لمعالم الديمقراطية وجوهرها، الحوار هو الوسيلة للوصول لقلب وعقل طفلك دون تشويه طبيعته الأصلية، الحوار هو لغة التفاهم ووسيلة لبناء علاقات صحية وسليمة وإيجابية، ويبقى الحب والرعاية والحنان غذاء لقلب وعقل طفلك، والسياج الآمن لمنع الاضطرابات والقلق والتمرد.

عندما يترك الوالدان الطفل ليختار بنفسه ويأخذ قراراته، يبقى ظلهما يحنو على طفلهما من بعيد، يُراقبه ويساعده ويرشده نحو القرار الأكثر صواباً

هل للديمقراطية الأبوية سلبيات أو أوجه قصور؟

لأن الديمقراطية تفتح مجالاً للنقاش والتحاور وطرح الأسئلة، في حالات معينة، قد يتمادى الأطفال وخاصة في عمر المراهقة، ويتجاوزون حدود الأدب عند التعامل مع والديهم، ويبدؤون بمحاسبتهم على شكل تساؤلات واستفسارات، وأثناء إبداء رأيهم في شأن من شؤون الإدارة المنزلية، قد يعتدون برأيهم دون احترام آراء الغير، وهذا أمر طبيعي ومتوقع، والتغيير يمر بمراحل وأطوار مختلفة، إلى أن تستقر الصورة الصحيحة في نهاية المسار. وعلى الأبناء أن يدركوا الفرق ما بين الانضباط وحرية الإرادة والاختيار، وأن هناك قواعد وحدودا لممارسة المساواة وحرية التعبير لا ينبغي تجاوزها.

إن المحرك الرئيسي، للحصول على حالة من التوازن ما بين حرية التعبير والتزام الأدب والاحترام، هو تقوية الاتصال والتواصل مع الأبناء باستخدام مهارات الحوار، واستغلال المواقف والمناسبات ذات العلاقة، للتذكير بالقواعد والقوانين والخيارات والعواقب المحتملة بشكل واضح ومفهوم، والتكرار سيِّد الترسيخ. وحتى ينجح الاتصال ما بين الوالدين والطفل، على الوالدين الاهتمام ببناء علاقة حب ومودة وصداقة مع الطفل بعيداً عن إملاء الأوامر وفرض النواهي.

وعندما يترك الوالدان الطفل ليختار بنفسه ويأخذ قراراته، يبقى ظلهما يحنو على طفلهما من بعيد، يُراقبه ويساعده ويرشده نحو القرار الأكثر صواباً، لأن غرس المهارات يحتاج لتدريب من قبل المتعلم، وقيادة من قبل المربي، إلى أن تُصقل.

على الوالدين أن يدأبا على تثقيف نفسيهما ليتمكنا من المعلومات والمهارات المتعلقة بالديمقراطية الأبوية، فهماً وتطبيقاً وممارسةً

وللتخفيف من العواقب السلبية التي قد تطرأ أثناء ممارسة وتطبيق مبادئ ومعاني الديمقراطية، من الأفضل أن يكون كلا الوالدين نموذجاً للقدوة الحسنة يقتدي الطفل به، ويجدر بأن يتصف النمط التربوي الوالدي بالثبات، فلا تتناقض أفعال الوالدين مع أقوالهما، بل تكون متوافقة ومتسقة مع بعضها البعض، وهذا يتطلب حزما مع الذات، وصبرا والتزاما.

ولعل من أهم العوامل التي تُشعر الطفل بالأمان والمصداقية هو مدى الاتفاق ما بين الأم والأب حول الأساليب التربوية، وانسجام القرارات التي يتخذها أحدهما أو كلاهما بشأن طفلهما في أمر ما، وإذا ما شعر الطفل بأي تناقض أو تشكك في مصداقيتهما، سيسبب له التشويش ويُزعزع الثقة بتوجيهاتهما.

وعلى الوالدين أن يدأبا على تثقيف أنفسهما ليتمكنا من المعلومات والمهارات المتعلقة بالديمقراطية الأبوية، فهماً وتطبيقاً وممارسةً، وأي هزة قد يشعر بها الطفل تجعله يستغل جهل الوالدين ويبدأ يُراوغ ويتحلل من الانضباط والالتزام بالقواعد الديمقراطية.

وقد يحصل تحت ضغوط الحياة وزيادة أعبائها أن يمل الوالدان من التحاور مع أبنائهما ويميلا نحو التساهل وقبول كل شيء يقوله أو يفعله الأولاد، وهذا مزلق خطير يُسبب إعطاء الطفل الاستقلالية التامة بلا ضوابط، ومن ثمَّ يُؤدي إلى انفلات زمام الأمور من أيدي الوالدين، وبضياع لغة الحوار، وأهم أداة تواصل بينهما وبين أبنائهما، كما تُضعف هيمنتهما على الموقف التربوي، بالقدر المطلوب، ويحدث تميع للمواقف التربوية، وتفقد مغزاها الديمقراطي، ويتحلل الأبناء مع الوقت من الالتزام واحترام الوالدين.

أهم قاعدة

"التوازن" سنة إلهية، وقانون كوني، يضع الأمور في نصابها الصحيح، ويحفظها من المغالاة والضياع، كل حالة تُقاس بقدرها من حيث السن، الجنس، الهدف التربوي، مرحلة النمو والتطور، شخصية الطفل، حجم المنفعة، الضرر اللاحق إلى غير ذلك. ومهمة الوالدين الموازنة ما بين الانضباط والتعبير الحر، الاختيار الحر ومعرفة تقدير العواقب، الاستقلالية واحترام آراء الوالدين والاسترشاد بنصائحهما، والحرص على بناء علاقة صحية سليمة كفيلة بإضفاء مرونة على علاقة تتعرض لتحديات وتقلبات، لكنها تبقى حجر الأساس في التنمية الإنسانية، وفي رقيها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان