تتعدد التجارب لدى الشعوب ضد الاستبداد والاحتلال، منها المقاطعة الاقتصادية والعصيان المدني، وهذه التجارب استخدمت في بلاد مختلفة لإنجاح القضايا العادلة من خلال تركيع المحتل أو المستبد.
يزداد وعي المسلمين والشعوب الحرة في البحث عن آليات ووسائل دعم القضايا العادلة والحرة يوما بعد يوم، وإن أحداث غزة وحدت الشعوب الحرة في العالم وأخرجتها في شوارع وعواصم الدول المختلفة، ولقد جاء دعم القضية الفلسطينية وأحداث غزة خاصة مختلفا هذه المرة في العالم، واللافت أن أكثر هذه الفعاليات الاحتجاجية كانت في البلاد غير الإسلامية، وهذه الظاهرة مهمة جدا في هذه الحقبة التاريخية لتوضيح وتصدير القضية الفلسطينية بطريقة أزعجت الصهاينة لأول مرة إلى هذه الدرجة في المستويات كلها، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن وجدان الشعوب ما يزال حيا نابضا.
الذين عرفوا عمق مشروع أربكان وأنه مشروع كبير؛ بحثوا عن طرق اسقاط حكومته. ورغم كل العراقيل التي وضعت أمام هذه المحاولة فقد تشكلت المجموعة الاقتصادية لدول الثمانية
ولا بد أن نذكر أيضا أن حركة حماس قد أدارت هذه الأزمة إدارة ناجحة أفشلت جهود الصهاينة، وفي مقدمتهم نتنياهو الذي حاول على الدوام أن يشبه حركة حماس بداعش ولكنه يعرف ويدرك جيدا أن هذا الكلام لا يشتريه أحد في العالم، ثم انتقل بسرديته إلى مستوى آخر يقول فيه: إن هذا الصراع هو بين الغرب المتحضر وحماس دون أن يدرك أنه أثبت ضعفه وفشله أمام مجموعة مؤمنة محدودة العدد والعدة. مع أن هذه المجموعة أي كتائب القسام كانت محاصرة إقليميا ودوليا منذ فترة طويلة إلى درجة أن مؤتمر العالم الإسلامي الذي عقد في جدة لم يستطع أن يتخذ موقفا قويا ضد الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني رغم أن نتائج المؤتمر المعلنة أو بيانه النهائي جاء أفضل من المؤتمرات السابقة.
أريد أن أعود إلى مسألة المقاومة الاقتصادية ضد الدول الإمبريالية باستعمال حق الاستهلاك لمنتجات الدول الداعمة لإسرائيل؛ فبسبب أحداث غزة انتشرت نداءات كثيرة لأجل مقاطعة منتجات الشركات الداعمة لإسرائيل، وإن هذا الوعي والإدراك في مجال الاقتصاد مهم جدا ولكن ينقصه أمر ضروري وهو الإنتاج البديل؛ فلا بد لأصحاب الشركات الصادقة مع القضايا العادلة أن تنتج البضائع المطلوبة في السوق حتى تكون هناك الخيارات المختلفة أمام المستهلك وتكون المقاومة الاقتصادية مستديمة.
عندما أسس الأستاذ أربكان مجموعة الدول الثمانية كان يخطط للإنتاج في مجالات كثيرة لا سيما مجال التكنولوجيا المتطورة. والذين عرفوا عمق مشروع أربكان وأنه مشروع كبير؛ بحثوا عن طرق اسقاط حكومته. ورغم كل العراقيل التي وضعت أمام هذه المحاولة فقد تشكلت المجموعة الاقتصادية لدول الثمانية (D8). وهي؛ مصر وتركيا وباكستان وإيران وبنغلادش وماليزيا وأندونيسيا ونيجيريا حيث مضت هذه المجموعة قدما إلى الأمام.
بعد تأسيس هذه المجموعة استهزأت بعض الأطراف المعارضة بأربكان وقالوا: إنه يؤسس ناديا للفقراء، فرد عليهم قائلا: إن قوة الاستهلاك أقوى من قوة الإنتاج، ودعونا نفترض أن هناك مصنعا أو سوقا كبيرا في المدينة. وقرر سكان هذه المدينة أن لا يشتروا شيئا من هذا السوق أو المصنع، فكم يستطيع أن يستمر هذا السوق؟!
أحداث غزة والكلام عن المقاطعة الاقتصادية في هذه الأيام ذكرني بمشروع أربكان الاقتصادي التنموي لحماية مصالح العالم الإسلامي، لأنه كان يريد أن يضم إلى هذه المجموعة الدول الأخرى صاحبة السيادة والإرادة السياسية مثل روسيا والصين وبعض الدول من أمريكا اللاتينية من أجل أن تعقد مؤتمر يالطا الثاني بهدف إعادة النظر في التركيبة الإدارية والسياسية للمؤسسات العالمية الأممية مثل الأمم المتحدة وما إلى ذلك، لأنه كان يدرك أن العالم الإسلامي يملك كل شيء من العقل والطبيعة والجغرافيا والتاريخ والخبرة. وكان يعتز جدا بتاريخ المسلمين الذين قدموا كثيرا للحضارة الإنسانية وكان يعرف التجربة الألمانية النهضوية لأنه درس الدكتوراه هناك.
لا بد لكليات الدراسات الإسلامية والمعاهد الشرعية أو الجمعيات الأهلية أن تدرس فقه المقاطعة عن طريق حق الاستهلاك بوصفه قوة جبارة لإسقاط أو تأديب الشركات الداعمة للصهاينة أو وما أشبه ذلك.
أقول وأكرر مرة ثانية: مهما تكلمنا هذه الأيام عن المقاطعة لمنتجات الشركات الداعمة لإسرائيل ونجحنا نسبيا فلا تكفي المقاطعة بل نحتاج إلى الإنتاج المحلي في كل المستويات، والعالم الإسلامي يملك المواد الخام والعقول الكافية للإنتاج. وكل ما نحتاجه هو الإرادة السياسية والتعاون والتواصل الاقتصادي مع الدول الصديقة في العالم.
من ناحية أخرى أقول: إن استعمال حق الاستهلاك ضد الشركات والدول الصديقة مع الصهاينة أسهل بكثير من العصيان المدني والتمرد ضد القانون. ولكن استعمال هذا الحق يحتاج إلى الوعي والأخلاق والصبر والتنازل عن بعض الرغبات النفسية والنفيسة. فلا الدولة ولا الأنظمة الدكتاتورية أو الفاشية تستطيع أن تجبر الشعب على أن يشتري شيئا بالقوة. وبالتالي فإن قوة الشعب في حق الاستهلاك خطيرة جدا لتركيع الشركات الداعمة للعدو.
ولا بد لكليات الدراسات الإسلامية والمعاهد الشرعية أو الجمعيات الأهلية أن تدرس فقه المقاطعة عن طريق حق الاستهلاك بوصفه قوة جبارة لإسقاط أو تأديب الشركات الداعمة للصهاينة أو وما أشبه ذلك.
أريد أن أشير هنا إلى نقطة مهمة جدا حول إرادة السلطة. فلا بد لنا من معرفة أن السلطة تنقسم إلى قسمين؛ السلطة الشعبية والسلطة السياسية أي الإدارية، والسلطة السياسية في بلد ما قد تخضع للضغوطات الخارجية وتتأثر سياستها إلى حد ما، ولكن السلطة الشعبية التي يمثلها العلماء والمثقفون لا تتأثر ولا تخضع للضغوطات الخارجية أو الداخلية خاصة مع وجود عالم التواصل الاجتماعي الذي لا حدود له إلى حد كبير.
لنفترض أن بلدا ما لا يسمح للعلماء أن يتكلموا عن المقاطعة أو استعمال حق الاستهلاك ضد الدول الداعمة للصهاينة؛ في هذه الحالة يجب على العلماء الأحرار خارج هذا البلد أن يتكلموا ويوصلوا الرسالة المطلوبة إلى الشعوب عبر الأثير متمثلين موقف العز بن عبد السلام الذي كان يؤثر كثيرا على قرارات السلطات السياسية بمواقفه الشريفة، فهو كان يمثل في عهده السلطة الشعبية ويجبر السلطة السياسية على تحترم مواقف هذا العالم الجليل. لأنه كان ينطلق من المنطق الواقعي لمصالح الشعب لذلك كان كلامه مقبولا ومسموعا.
أخيرا أكرر أن سلاح الاستهلاك أقوى من قوة الإنتاج للدول الإمبريالية التي لا تحترم قيمنا وقضايانا العادلة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.