كثير من الناس يعرفون ويعترفون بأن الأستاذ نجم الدين أَرْبَكَان هو المؤسس الأول للنهضة التركية المعاصرة وهو الذي هيأ الأرضية لرجب طيب أردوغان إذ تربى منذ صغره في المدرسة الفكرية الأربكانية.
الأستاذ نجم الدين أربكان منذ أن دخل السياسة التركية أصبح علمًا معروفًا ومحبوباً لدى المحافظين والوطنيين، ولكنه أربك في الوقت نفسه وأثار حفيظة أقطاب العلمانية الفاشية التركية والأطراف المعادية للإسلام والمسلمين.
أربكان يعد المعلم الأكبر للشباب في مجال التوعية عن الصهيونيّة وخطرها ودورها في تدمير الدولة العثمانية ومحاربتها الإسلام والمسلمين.
الأستاذ نجم الدين أربكان كان مهندسًا متميزًا وسياسيًّا بارعًا؛ منذ بداية مشواره السياسيّ أخذ يركز على تحقيق النهضة التركية في مجالاتها المختلفة لا سيما في مجال الاقتصاد والمجال الحضاريّ من خلال تحقيق التّواصل الحضاريّ بربط الأجيال بالتاريخ الأصيل للشعب التركي. كما أنّه كان حريصاً على تعزيز الانتماء للهويّة الأصيلة فكان يضع الشعارات والأهداف الكبيرة أمام الشباب الذين كانوا يبحثون عن الهوية الوطنية بثوب إسلامي، ليس غريباً على شخصيّة فريدة مثل القائد أربكان أن يركز جهدة على التنمية الاقتصادية والصناعية للدولة التركية المعاصرة.
الحديث عن الأستاذ أربكان ذو شجون ويطول كثيراً غير أنني سأركّز في حديثي حول ما ذكرته في العنوان؛ إذ إنّ أربكان كان لا يحبّ الحديث عن نفسه بل كان يرفض ذلك لا سيما في أيامه الأخيرة؛ وقد تواصل معي مندوب الجزيرة في تركيا آنذاك الأستاذ شعبان أكثر من مرة لإجراء حوار مع أربكان لصالح قناة الجزيرة، وبالفعل فقد كلّمت الأستاذ نجم الدين بهذا الصدد وراجعته أكثر من مرة لكنه لم يرد علي؛ على الرّغم من أنني كنت مستشاره في هذه القضايا.
شعرت بالحاجة إلى ظهوره الإعلامي وعندما أَصْرَرْت عليه في آخر مرة نظر إلى ورفع صوته في وجهي قائلاً: "ماذا يريد هؤلاء مني؟! ليس في حياتي شيء، إذا كانوا يريدون أن يتعلموا شيئًا فليدرسوا حياة الأنبياء".
وبدوري كنت رسولًا بين مندوب قناة الجزيرة والأستاذ أربكان، فنقلت هذا الجواب إلى الأستاذ شعبان. الذي جاء تعليقه أيضا طريفا لافتا للنظر إذ قال لي: "الحمد لله أنّ الأنبياء لم يكونوا أتراكًا وإلا ما كنا نستطيع أن نعرف شيئًا عن حياتهم". وتبسمنا معا وانتهى الموضوع.
بعد هذا الموقف لم يعش أربكان فترة طويلة. وأتى طاقم الجزيرة فأجرى حوارات كثيرة عن أربكان مع أطراف عديدة في تركيا وكنت واحدا من هؤلاء، وحاولنا أن نؤدي الواجب تجاه الأستاذ بما نستطيع.
ها نحن هنا في أوروبا أكثر من خمسين مليون مسلم، الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ولقد حاولتم أن تقضوا على الإسلام فلم تنجحوا ولن تنجحوا
- نجم الدين أربكان
هناك جانب آخر لأربكان لا يعرفه عنه كثير من المفكرين والسياسيين وهو أنه بحق "المعلم الأكبر" للشباب في مجال التوعية عن الصهيونيّة وخطرها ودورها في تدمير الدولة العثمانية ومحاربتها الإسلام والمسلمين.
كان يتكلم في هذا الموضوع ساعات طويلة بلا تعب، وكنا نتعجب من كثيرة تركيزه على هذه القضيّة كثيرا بلا كلل أو ملل، وكنّا نتساءل عن سبب تكراره الحديث عن الصهيونيّة أمام كل ضيف جديد، ولكنني أذكر هذا اليوم وقد علمت كم كان محقا، فإنّ أحداث فلسطين وغزة خاصة أثبتت صحة ما كان يفعله أربكان رحمه الله رحمة واسعة.
كان الأستاذ أربكان يهتم برمزية الأحداث التاريخية كثيرا، فكان على سبيل المثال يتحدث لنا دائمًا المؤتمر الصهيوني الذي عقد في بازل سويسرا في تاريخ 1897. في تلك الفترة لم يكن عدد المسلمين كَثِيرًا في أوروبا، وكان الصهاينة قد قرروا في هذا المؤتمر إسقاط السلطان عبد الحميد من الحكم بل قرروا القضاء على الدولة العثمانية كلها.
أربكان الذي كان يهتم بالتاريخ ويُعَلِّم أهمية هذا اليوم لِأَبْنَائِهِ وأتباعه وعناصره في الحزب؛ ذهب إلى بازل في سويسرا وعقد مؤتمرًا دوليًّا في نفس القاعة بتاريخ 1997 بعد مئة سنة وفي التاريخ نفسه الذي عُقِدَ فيه مؤتمر الصهيونية الأَوّل؛ دعا أربكان في هذا المؤتمر التاريخي رؤساء جمعيات المسلمين في أوروبا وتحدى الصهاينة وقال لهم: "ها نحن هنا في أوروبا أكثر من خمسين مليون مسلم، الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ولقد حاولتم أن تقضوا على الإسلام فلم تنجحوا ولن تنجحوا."
أربكان الذي ربى جيلًا كاملا ليس فقط في تركيا، بل في كل العالم بمواقفه وآرائه المتزنة. كان يحب المسلمين جميعا على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم المختلفة
وكان يقول لليهود: إن عددكم في العالم قليل ومحدود جدا، ولو أردنا أن نجعل منكم قاضيًا أو واليًا في كل مدينةٍ وضاحية من مدننا فلن يكفي عددكم، فلماذا تتكبرون وتتجبرون وتضرون الإنسانية بمشاريعكم الاقتصادية والسياسية ضد الشعوب في العالم.
لهذه الأسباب كلّها كان وصول أربكان إلى السلطة رئيسا للوزراء في تركيا سببا لانزعاج الأطراف الصهيونية بشكل كبير، فما كان منهم إلا أن حرضوا اللوبي الصهيوني في أمريكا وخارجها لإسقاط حكومة أربكان.
هذا هو أربكان الذي ربى جيلًا كاملا ليس فقط في تركيا، بل في كل العالم بمواقفه وآرائه المتزنة. وكان يحب المسلمين جميعا على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم المختلفة، فكان من أصوله وقواعده ألا يثير القضايا الخلافية الفقهية بين المسلمين، كما كان يحترم العلماء وأصحاب العلم مهما كان تخصصهم.
وها أنا اليوم أكتب عن موقف أربكان مجددا حتى تصل رسائله ومنهجه إلى الأجيال القادمة من خلال منبر الجزيرة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.