شعار قسم مدونات

الحلقة المفقودة في الثورة السودانية

ميدان - الثورة السودانية
لقطة من الثورة السودانية التي ألهمت العالم بسلميتها وشمولها لكل أطياف شارعها (رويترز)

يتساءل كثير من السودانيين عن مآل الثورة السودانية التي شهد لها العالم كله بأنها كانت ملهمة حقا في سلميتها وشموليتها بحكم اشتراك كافة شرائح المجتمع فيها، فضلا عن الروح الوطنية التي تجلت فيها والآمال العريضة التي كانت معقودة عليها، غير أن النكسة التي تعرضت لها الثورة خلال السنوات الثلاث الماضية جعلت السودانيين يتساءلون عن جدوى الثورة من الأساس بالنظر إلى الوضع الكارثي الذي يمر به السودان حاليا، بل أخذ بعض الناس يندب حظه ويعود به الحنين إلى أيام حكومة الإنقاذ.

في هذه المدونة سنتعرف على الحلقة المفقودة في الثورة السودانية، وهي التي تحدد نجاح أو فشل الثورات، وسنتطرق إلى الخطوات العملية التي يمكن أن تعيد الأمور إلى نصابها وإعادة قطار الثورة إلى الطريق.

يوم 30 يونيو/حزيران الماضي مضى بكل ما كان يعقد عليه النشطاء من آمال عريضة بإعادة "الحكم المدني"، ومع مروره بسلام كسائر أيام الثورات عم الإحباط في ظل التردي المعيشي غير المسبوق في تاريخ السودان.

ومن هنا كثرت التساؤلات حول مآل الثورة السودانية، وهل يوجد أمل لنجاحها في ظل التشرذم السياسي الحالي، ليس بين قوى إعلان الحرية والتغيير (قحت) وبين خصومها فحسب وإنما داخل قحت نفسها، فالحركات التي توصم الآن بأنها انقلابية كانت جزءا لا يتجزأ منها، وكذلك الحزب الشيوعي الذي يقول في قحت اليوم ما لم يقله مالك في الخمر، فضلا عن تجمع المهنيين الذي هو الأب الحقيقي لها.

إعلان

من الصعوبة بمكان الجزم بأن الثورة السودانية فشلت، ولكن بنفس القدر يصعب القول إنها نجحت، والسبب في ذلك أن هناك حلقة مفقودة في الخطاب السياسي لأحزاب قحت التي ظلت تتحدث باسم الثورة ومعها النشطاء من الداخل والخارج ولجان المقاومة وغيرهم.

لم تطرح "قوى الثورة" خطابا سياسيا رشيدا يبشر الجماهير التي فجرت الثورة بالمشروع الحلم، بل ظل الخطاب السياسي بائسا يشبه الخطاب السياسي للأنظمة العسكرية التي كثيرا ما تبحث عن عدو لتوهِم به الجماهير وتحشد الجماهير للقضاء عليه، علما بأن العدو قد لا يكون موجودا أحيانا أو قد يكون متوهما ولكن الأنظمة العسكرية تجعله حقيقة.

خطاب قحت كان موجها في بداية الثورة إلى "الكيزان" (والمقصود به التيار الإسلامي عموما)، فجعلت منه بعبعا يهدد الثورة، علما بأن رئيس المؤتمر الوطني المكلف أعلن أن حزبه سيكون في خانة المعارضة المساندة، وهذه من المفردات الجديدة في المشهد السياسي.

غير أن قحت قابلت هذه التصريحات بالسخرية، ثم أصبح الخطاب الآن موجها إلى "الانقلاب" ومعه المؤسسة العسكرية برمتها، فأصبح كل من لا يتوافق مع قحت في خطها السياسي فهو "انقلابي"، وخسرت قحت بذلك الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية السلام والتي كانت جزءا أصيلا فيها.

الخطاب السياسي لقحت حاليا موجه بقوة إلى "اقتلاع الانقلاب"، "تصفية الانقلاب"، "القضاء على الانقلاب"، والحقيقة هي أنه لا الكيزان كان هدفا للثورة ولا الانقلاب أصبح هدفا لها في ما بعد، وإنما هدف الثورة هو القضاء على الفساد والاستبداد، ثم تحقيق الحرية والسلام والعدالة: إجمالا إنشاء دولة القانون والمؤسسات والحريات.

إذن، الحلقة المفقودة في الثورة السودانية هي الخطاب السياسي الرشيد، وهو الخطاب الذي يرسم الصورة الذهنية للحلم الذي قامت من أجله الثورة، وهو الخطاب الذي يحول الطاقة الثورية التي قضت على نظام الفساد والاستبداد إلى طاقة بناء وتعمير وإلا تحولت إلى طاقة هدم وتدمير.

إعلان

الخطاب السياسي الرشيد يرسم الصورة الذهنية للمشروع الوطني الذي قامت من أجله الثورة، ويبعث الأمل بمستقبل أفضل، ويوجه الطاقات نحو البناء، حينها فقط يشعر الناس بالأمان ويتفانون، بل ويتنازلون من أجل الحلم الذي جسده الخطاب السياسي الرشيد.

في ظل الخطاب السياسي الرشيد لا يمكن أن يصبح الكيزان عدوا، وإنما تعمل الثورة على تحييده ثم استقطابه ثم إشراكه، والمؤسسة العسكرية لا يمكن أن تصبح عدوا، وإنما تعمل الثورة على تحييدها وطمأنتها بأنها واحدة من مؤسسات الدولة التي ستحظى بالرعاية والعناية عند تحقيق الحلم.

الخطاب السياسي الرشيد يسعى لتحييد الخصوم واستيعابهم ثم إشراكهم في البناء، لأن عملية البناء تستوعب كل الطاقات بلا استثناء.

الخطاب السياسي الرشيد يهتم بالقانون والعدالة كضابط للحياة الانتقالية، فيهتم ببناء المؤسسات العدلية التي تحاكم الفساد بكل أشكاله بصرف النظر عن هوية المفسد، وبإقامة العدل يشعر الناس بالطمأنينة وبالتالي لا يسعون لأخذ حقوقهم بأيديهم، بل يتعاونون من أجل كشف الفساد والمفسدين، ومن خلال الخطاب السياسي الرشيد سيعود قطار الثورة السودانية إلى مساره الطبيعي.

إذن، الحلقة المفقودة في الثورة السودانية هي هذا الخطاب السياسي الرشيد، فهل القوى السياسية المهيمنة حاليا تملك الإرادة والرؤية لإطلاق هذا الخطاب السياسي الرشيد؟ إذا كانت الإجابة "نعم" فإن ذلك يعني أن الثورة السودانية ستنجح في تحقيق أهدافها بأسرع ما يمكن بالنظر إلى الموارد البشرية والطبيعية التي يتمتع بها السودان، وإذا كانت الإجابة "لا" فلا يعني بالضرورة أن الثورة فاشلة ولكن التكلفة ستكون باهظة، لأن التغيير سيستغرق أجيالا إلى حين التوصل إلى قناعة بضرورة تبني الخطاب السياسي الرشيد.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان