عرض لي وأنا أتصفح الفيديوهات في تطبيق "اليوتيوب" فيديو تلتقي فيه المذيعة هالة سرحان بأمين هويدي الذي تولى إدارة جهاز المخابرات المصرية في الفترة من أغسطس/آب 1967 حتى أبريل/نيسان 1970 وقد كان توليه مباشرة بعد هزيمة 67 وإحالة صلاح نصر رئيس الجهاز إلى المحاكمة فيما عرف بقضية انحراف المخابرات، وكان مما أثار استهجاني ونفوري واستدعاني أن أكتب هذا المقال ما قاله أمين هويدي من عدم ممانعته لاستخدام النساء أو الرجال في عمليات للإسقاط والتحكم والسيطرة عبر العلاقات غير الشرعية، إذ قال بالنص:
"استخدام الجنس للصالح العام ولصالح الوطن"،
وعندما قاطعته المذيعة قائلة "حرام حرام حرام!"
قاطعها قائلا "احنا (نحن) جهاز محناش (لسنا) في وزارة الأوقاف،
يا ستي أنت لا تتعاملين مع مشيخة الأزهر
أنت تتعاملين مع جهاز المخابرات العامة".
توقفت لحظات أتدبر كيف يكون هذا النمط التفكيري لدى رئيس جهاز المخابرات الذي جاء بعد فضيحة كبرى لسابقه صلاح نصر كانت تتعلق بهذه الجزئية تحديدا وهي تصوير أشخاص في أوضاع مخلّة بالشرف ثم إخضاعهم عبر ابتزازهم بهذه المواد؛ ألا تتعظون يا قوم؟! أليس منكم رجل رشيد؟! كيف يكون هذا حال الرجل الذي جاء بعد المصيبة مباشرة؟ وكيف يكون الحال كلما بعُد الزمان وتلاحقت الأيام؟!
ثم عرض لي فيديو مقترح أسفل هذا الفيديو الخاص بأمين هويدي وكان في الفيديو تعليق من السيد حسين الشافعي -نائب رئيس الجمهورية الأسبق وأحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار- حيث كانت المذيعة نفسها في البرنامج نفسه الذي صُوّر منذ سنوات طوال تحاوره وتطرقت إلى قضية انحراف المخابرات وصلاح نصر، ثم استفسرت منه إن كان يعارض العمليات القذرة وفكرة استخدام العلاقات غير الشرعية في عمل المخابرات، فأجاب الرجل بأسلوب مهذب أنه بالتأكيد لا يرتضي مثل هذه العمليات التي تتصادم وديننا الحنيف وكذلك كل القيم والمثل، وذكر في معرض كلامه أيضا أن من نعم الله عليه أنه لم يعمل في أجهزة جمع المعلومات ولا يعرف دقائق عملها وكيف تسير الأمور. في وسط كل هذا تذكرت مصطلحا كنت قد قرأته في كتاب "الفتح القسي في الفتح القدسي-حروب صلاح الدين" للأصفهاني، كان هذا المصطلح "أسبلن فروجهن"، وكنت قد قرأت الكتاب منذ مدة طويلة، تقريبا في عام 2005، أي منذ ما يقرب من 17 عاما، لذا دعتني نفسي أن أرجع إلى الكتاب وأبحث عن هذه الفقرة، فوجدتها تحت عنوان "ذكر حال نساء الفرنج" حيث قال الأصفهاني "وصلت في مركب ثلاثمئة امرأة إفرنجية مستحسنة، متحلية بشبابها وحسنها متزينة…. فوصلن وقد سبلن أنفسهن، وقدمن للتبذل أصونهن وأنفسهن، وذكرن أنهن قصدن بخروجهن تسبيل فروجهن، وأنهن لا يمتنعن من العزبان، ورأين أنهن لا يتقربن بأفضل من هذا القربان…. وزعمن أن هذه قربة ما فوقها قربة، لا سيما فيمن اجتمعت عنده غربة وعزبة، وسقين الخمر، وطلبن بعين الوزر الأجر، وتسامع أهل عسكرنا بهذه القضية، وعجبوا كيف تعبّدوا بترك النخوة والحمية"، وهنا يرصد الأصفهاني الحال وقد عايشها وكانوا في وقت حرب لا سلم؛ وأي حرب! فقد خاض صلاح الدين سلسلة من الحروب متتالية كان لها عظيم الأثر في التاريخ الإسلامي، ففي خضم هذه المعارك استنكر على العدو أن يفعل الفاحشة في نساء هن من الأعداء لا منا، فالفاعل والمفعول من أعدائنا، ومع ذلك تعجب الأصفهاني بفطرته السليمة كيف يظن أحد أنه يتقرب إلى الله بإتيان المعاصي وارتكاب الفواحش، ليبيّن لنا وهو يرصد تاريخ قائد عسكري قلّ أن تجود الدنيا بمثله أن الغاية لا تبرر الوسيلة وأن الدولة يجب أن ترعى الفضيلة.
فكرة استخدام النساء في العمل المخابراتي مرفوضة تماما في ديننا الإسلامي وعرفنا العربي وحتى في القيم الإنسانية، وقد اخترعها أعداؤنا بل أصّلوا لها من تراثهم، فقد وردت في سفر القضاة في العهد القديم قصة دليلة وشمشون وكيف أن دليلة أغوت شمشونًا وأسقطته في الفاحشة ثم أدركت سرّ قوته بعد أن شرب الخمر حتى سكر فباح بكل شيء، وفي العصر الحديث نقرأ في الـ"bbc عربي" أن صحيفة "يديعوت أحرنوت" نقلت عن الحاخام آري شفات قوله إن الديانة اليهودية تبيح للنساء ممارسة الجنس مقابل الحصول على معلومات مهمة لأمن إسرائيل، ونشر شفات أفكاره التي نقلتها عنه الصحيفة، في دراسة بعنوان "الجنس غير المشروع في سبيل الأمن القومي" يصدرها معهد للدراسات الدينية في مستوطنة "غوش عتصيون" قرب القدس، وبذلك ينطبق عليه قول الله جل جلاله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)﴾ [سورة البقرة]. وللإنصاف هناك كثير من علماء اليهودية منعوا وحرّموا مثل هذا الأفعال.
في عام 2017 صدر كتاب بعنوان "الجاسوسات يحكين" لكلوي أبرهاردت ذكرت فيه نقلا عن مسؤول استخبارتي غربي أن دوافع خيانة فرد ما لبلده كالآتي: المال، والأيديولوجيا (سياسية/دينية)، والضغط (الاستغلال الجنسي أو الابتزاز بالفضيحة)، والكبرياء (أو الغرور والمكابرة)، وإليك رابط التعرف على الكتاب وفيه يتضح لك كيف استساغ القوم مثل هذا الأمر، وعلينا أن نحذر اتباع خطاهم والسير في دربهم لأن لدينا منظومة قيم ينبغي أن تحكمنا وإلا فهزيمتنا النفسية محتمة.
الشرف والعرض مصون في ديننا ومنظومتنا القيمية، فقد حرّمت الشريعة الغراء الزنا، وأمرت بإيقاع العقوبة الشديدة بمن يقترفونه؛ قال تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: 2]، بل إنها وضعت حواجز مانعة من الاقتراب من الزنا، فهناك الأمر بالاستئذان قبل الدخول وعدم التلصص على العورات وغض البصر، بل جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم استباحة الفاحشة مدعاة لانتشار الأوبئة؛ ففي الحديث "لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم" ( أخرجه ابن ماجة، الحديث رقم 4019، وحسّنه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة، الحديث رقم 106)، بل حتى في الجاهلية نرى عنترة الفارس المغوار يحدثنا عن العفاف والشرف فيقول:
وأغضّ طرفي ما بدتْ لي جارتي .. حتى يواري جارتي مأواها
إنّي امرؤ سمح الخلائق ماجد .. لا أتبع النفس اللجوج هواها
وقد رأينا وسمعنا قصصًا يشيب لها الولدان من إقامة مدارس لتعليم أساليب الإسقاط الجنسي داخل أجهزة المخابرات في دول كبرى، يتعلمون فيها فن الإغواء والجنس وكيفية السيطرة على الفريسة والتلاعب بها، لتنكشف لنا قصص قميئة مثل قصة حياة شولا كوهين عميلة الموساد الإسرائيلي، التي ولدت في الأرجنتين سنة 1920، وجُنّدت وأُرسلت إلى بيروت سنة 1947، وتزوّجت اللبناني يوسف كشك وأسست شبكة دعارة كانت أحد أهم أسلحتها في الحصول على المعلومات و الإيقاع بالفرائس، وامتد نشاط كوهين إلى سوريا والعراق لا سيما في عمليات تهريب اليهود، واستطاعت اختراق أحزاب وشخصيات لبنانية بارزة، وهذا فيلم وثائقي يتناول قصتها.
بل بلغ الأمر بالأميركيين أن ابتكروا عقارا يصيب بالهلوسة ويعطى للشخص بعد استدراجه للفاحشة كي يبوح بكل ما لديه من معلومات من دون أن يدرك ما يحدث له.
وفي ختام مقالي أود أن أشدّ على أيدي المسؤولين في كل بلادنا الحبيبة، وأقول: احذروا الانجرار إلى فخ استخدام مثل هذه الوسائل المهينة التي يكون فيها خوض في الشرف وانتهاك للعرض؛ فإن الغاية لا تبرر الوسيلة لدينا، ولا نجاح لنا إلا بما نجح به أجدادنا، فمهما قذرت وسائل أعدائنا فلم يقابلهم أجدادنا إلا بشريف الخصال وبأس الرجال.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.