يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير "لولا نعمة النسيان، لما بدأنا حياة جديدة كل يوم"، وقبله رأى الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" أن النسيان من أعجب النعم التي وهبها الخالق العظيم لبني البشر، حيث قال "لولا النسيان لما سلا شيئا ولا انقضت له حسرة ولا تعزى عن مصيبة ولا مات له حزن، ولا بطل له حقد، ولا تمتع بشيء من متاع الدنيا".
تناول الفلاسفة والفقهاء والمفكرين النسيان في الطبيعة البشرية منذ زمن بعيد، وعلى الرغم من تأثيراتها السلبية على حياة البشر في كثير من الأحيان -وذلك باعتبار أن النسيان آفة إنسانية، إذ إن بول ريكور يقول "النسيان يظل التهديد المقلق الذي يبدو في خلفية فينومينولوجيا الذاكرة وإبستمولوجيا التاريخ"، فإن الغالبية منهم داروا في فلكه باعتباره منحة ربانية تساعد بني البشر على تخطي لحظات أليمة وصعبة في فترات زمنية معينة، لضمان استمرارية إعمار الأرض وحفظ الجنس البشري من الفناء.
ومع التطور التكنولوجي والرقمي الذي أدى إلى ظهور العالم الافتراضي واستمرار الهجرات الهائلة وسياسات التوطين التي تمارس على البشرية من القوى الفاعلة أصحاب المصلحة في العالم السيبراني، باتت البيانات والمعلومات عصب الحياة في ذلك العالم وشريانه النابض ووجد كثير من الأفراد والمستخدمين بياناتهم الشخصية مبعثرة في ذلك العالم الافتراضي اللانهائي -منها ما أودع في ذلك العالم بمحض الإرادة لتصبح متاحة للجميع ومنها ما تم الاستحواذ عليها وتسربيها عنوة وبطرق شتى- وكثير منها إما قديم أو مشوه ومغلوط أو مجتزأ عن سياقه الصحيح، وما لم يضعه أولئك المستخدمون في حسبانهم أن إمكانية التحكم بتلك البيانات والمعلومات والسيطرة عليها وحذفها مستحيلة فقد أصبحت في حيازة أطراف لا تربطهم بالمالك الأصلي أي علاقة أو صلة، زد على كل ذلك أن تلك البيانات والمعلومات أبدية باقية ما بقي ذلك العالم الافتراضي، حيث لا وجود للنسيان بين ضلعي خوارزمياته ولوغاريتماته.
وبتحول البيانات والمعلومات إلى ثروة تعادل في أهميتها وقيمتها الثروات الطبيعية الأخرى، ومع استمرار نزوح البشرية إلى العالم الرقمي والهجرة إليه واستيطانه تضخمت تلك الثروة المعلوماتية، ومثلما كان لها دور فعال في تطور وتقدم الإنسانية فإنها أيضا كانت وبالا وثبورا اكتوى بها الكثير، خاصة مع احتدام صراع القوى الفاعلة في عالم لا تحكمه مواثيق ولا معاهدات ولا قوانين ولا سيطرة مطلقة فيه لأحد، فكان المستخدم هو الحلقة الأضعف الذي تطحنه رحى الحروب المعلوماتية بين تلك القوى التي تمتلك تلك الثروة وتجمعها لتستخدمها لصالحها، بل وتعرضها في أسواق نخاسة سوداء ليستحوذ عليها من يدفع أكثر.
ناهيك عن وجود تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تعمل على اقتفاء أثر مستخدميها وتعمل على تسجيل حركاتهم وسكناتهم، بل وتجمع معطياتهم وتحللها وتتنبأ بسلوكياتهم بل وتقترح عليهم وتوجههم، وتبدى جليا أن الأفراد والمستخدمين يواجهون مخاطر محتملة تتمثل في انتهاك خصوصياتهم وتهديدات قد تستهدف حياتهم، نتيجة معلومات وبيانات جمعت عنهم في عالم تعيش فيه البيانات والمعلومات حياة أبدية، منذرة بعواقب وخيمة ومخاطر وأضرار قد تطالهم، لعل أبرزها المساس بخصوصياتهم، فضلا عن تعرضهم لمخاطر التصنيف والتقييم السلبي بناء على تلك المعلومات التي تؤثر وتلحق ضررا بالغا في حياتهم العملية والمهنية والاجتماعية.
ومن هنا كان ميلاد فكرة الحق في النسيان الرقمي التي تبناها كثير من الفقهاء والباحثين بوصفه حقا مستحدثا يضاف إلى حق الخصوصية للأفراد والمستخدمين في العالم الرقمي، لكن هذه الفكرة جسدت بجلاء العنصرية المقيتة التي طفحت من مشغلي ومقدمي خدمات الإنترنت وبعض الأنظمة التشريعية والقضائية والتي كانت متدثرة برداء حرية التعبير والحق في النشر، لكنها تحولت إلى جدار فصل عنصري؛ فمنحت عرقا من آهلي هذا العالم الحق في أن يتم نسيانه رقميا في الوقت والزمن الذي يريده، بينما منعت ذلك الحق عن أعراق كثيرة تشارك ذلك العرق الذي منح ذلك الحق العيش في ذلك العالم.
على الرغم من المخاطر والمهددات الحقيقية التي تطال تلك الأعراق المحرومة من التمتع بحق النسيان الرقمي، فإن ما يجب أن يفهمه الجميع أن فكرة الحق في النسيان الرقمي هي القضية التي ستتصدر نقاشات العالم السيبراني وستصبح عما قريب الحق الذي سيتبنى النضال من أجله طيف كبير جدا من آهلي العالم السيبراني؛ ومن ثم فإن من أهم ما ينبغي للمشتغلين بهذا الموضوع الاهتمام به هو التأصيل لهذا الحق من حيث الحماية القانونية والمسؤولية الجنائية، خاصة أن تلك الفكرة قد نضجت وبدأنا نقطف أولى ثمارها، بيد أن المحزن في تلك الثمرة البكر أنها مصابة بآفة عنصرية مقيتة يجدر بمبتدعها أن يعالجها سريعا، حتى لا تصبح تلك الآفة وصمة عار لا تفارقه في عالم لا ينسى حتى لو تناسى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.