موعدنا في هذا المقال مع فيلسوف استثنائي في مجال الأخلاق، من رواد التيار العلمي التجريبي في عصر التنوير، الذين أسهموا في وضع أسس النهضة العلمية التي قامت عليها الحضارة الغربية الحديثة. إنه الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، أحد الثلاثة الذين اعتبرهم الرئيس الأميركي الثالث توماس جيفرسون "أعظم ثلاثة رجال عاشوا على الإطلاق دون استثناء، فقد وضعوا الأساس لتلك البنى الفوقية التي نشأت عليها العلوم الفيزيائية والأخلاقية"، وهم بيكون ولوك وإسحق نيوتن. فبالإضافة إلى كونه عالما تجريبيا وطبيبا وسياسيا وفيلسوفا ورائدا مؤسسا للفكر الليبرالي، فهو صاحب نظرية متكاملة في الأخلاق، كان لها تأثيرها الكبير في القرنين 17 و18م، ولكنها، بفعل عوامل عديدة، لم تستطع الصمود بعد ذلك في وجه التيارات الإلحادية التي انقلبت، جملة وتفصيلاً، على الدين والأخلاق في القرون التالية.
يعتقد لوك أن السلوك البشري يجب أن يكون ملتزما بالقوانين التي سنّها الله، فهذا الكون ليس مجرد كون مُنظَّم اسميا، ولكنه عالم، يجسد عناية خالق قوي وحكيم، صنع وبنى هذا الكون كله، والبشر مجرد خلق مما خلق، وهم ملزمون بإطاعة قوانين الله، لأن الله هو الأعلى، وهم ملزمون بإظهار الطاعة للحدود التي يفرضها.
درس الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1704م) العلوم الدينية، لكنه لم يلتحق بسلك رجال الدين، ومارس التجريب العلمي قبل أن يدرس الطب في جامعة أكسفورد، ليتحول بعده إلى الفلسفة. تولى عدداً من المناصب الحكومية، وكان طبيباً خاصاً لعائلة اللورد آشلي الذي كان معارضاً للقصر الملكي في عهد الملك جيمس الثاني. وكان لعلاقة لوك باللورد آشلي دور كبير في نظرياته السياسية الليبرالية.
تأثيره السياسي:
هاجر لوك إلى هولندا عام 1683م بسبب ملاحقة الشرطة له على خلفية علاقته باللورد آشلي، وعاد إلى إنجلترا عندما قامت الثورة الإنجليزية على أيدي حزب الأحرار البريطاني (1688-1689م) متأثرة بأفكار جون لوك السياسية، وتأسست على إثرها الملكية الدستورية في بريطانيا.
يعتبر لوك مؤسس الفكر الليبرالي الذي يقوم على الديمقراطية والحرية الفردية والمساواة الاجتماعية، ويطالب أصحابه بحرية التعبير والصحافة والحرية الدينية والحقوق المدنية وغيرها من المبادئ الليبرالية الشائعة. كان لوك يرى أن للفرد الحق في الحياة والحرية والملكية الخاصة، وأنه يتوجب على أي حكومة ألا تتعدى على شيء من هذه الحقوق الطبيعية للفرد. وكان يرى أن الوظيفة العليا للدولة هي حماية الثروة والحرية، وأنه يجب على الشعب تغيير الحكومة أو تبديلها، في حالة عدم حفظها لحقوق الشعب وحريته. وكما أثرت هذه الأفكار في الثورة الإنجليزية، فقد أثرت كثيرا في الثورة الأميركية، وساهمت في زيادة الوعي السياسي لدى الأميركيين، الذين اعتنقوا آراءه وعملوا على تنفيذها.
ومع ذلك، فقد كان جون لوك متسامحا ومتصالحا، وليس ثوريا شموليا، حريصا على ثبات واستقرار المجتمع الإنجليزي، مع الاستفادة من نتائج الثورة، بالجمع بين النظام الملكي والنظام البرلماني بصورة متوازنة، مع التوازن بين الطبقتين الأرستقراطية والبورجوازية في المجتمع، في مواجهة الحماس الزائد الملازم لصعود أي طبقة جديدة، والذي يصل عادة إلى حد التهوّر وإشاعة الفوضى في الدولة والمجتمع.
كتب لوك مقالين "في التسامح"، وأعقبهما بمقالين "في الحكم المدني" كانا حجر الزاوية في النظرية الديمقراطية الحديثة في بريطانيا والولايات المتحدة.
نظرية لوك الأخلاقية
ألّف جون لوك كتابا بعنوان "الأخلاق بشكل عام"، ولم يكن بهدف وضع نظرية أخلاقية محددة، ولكن ما ذكره في هذا الكتاب، وفي غيره من المقالات والمؤلفات، يشكّل في مجموعه ما يعتبر نظرية شبه متكاملة في علم الأخلاق. فقد كانت الأخلاق ذات أهمية مركزية بالنسبة للوك، فهي سمة مركزية للحياة الفكرية والعملية للإنسان، وهي العلم الصحيح، وعمل الجنس البشري بشكل عام. وقد كان لوك مهتما بإرساء أسس التفكير الأخلاقي.
- وفيما يأتي أبرز جوانب التفكير الأخلاقي عند جون لوك:
الالتزام الأخلاقي:
إن الالتزام الأخلاقي يقوم بشكل عام على مجموعة القواعد الأخلاقية المبنية على قوانين إلهية مطلقة، فالقانون الأخلاقي هو مجموعة قواعد إلزامية، تجسّد إرادة سلطة أعلى، وهي قواعد إلزامية بسبب هيكل السلطة العليا الذي نشأت منه. مجموعة القواعد الأخلاقية التي يستنتجها العقل وحده تعكس الطبيعة البشرية.
والقانون الأخلاقي الطبيعي يشتمل على سمتين: العقلانية والشرعية. فالعقل هو السبيل الأساسي الذي عن طريقه يتوصل البشر إلى فهم القواعد الأخلاقية وبواعث التزامنا بها، ومن ثمّ تقدير الطبيعة الإلهية التي فرضتها، فالأخلاق هي تعبير عن سلطة تشريعية. وجميع متطلبات القانون موجودة في القانون الطبيعي. والقانون الطبيعي هو الذي يحكم الفعل البشري، وقوانين الطبيعة التي تحكم جميع الأشياء الأخرى في الطبيعة. فمثلما تخضع كل الأشياء الطبيعية لقوانين خاصة بها، كذلك يخضع البشر للقانون أيضًا، والفضل لله في ضمان أن تتبع حياتنا مسارًا معينًا. فالقانون الطبيعي عبارة عن "خطة، قاعدة، أو.. نمط" للحياة.
يرى لوك أن الله يقيم العدل في شكل عقوبات أحيانا كوسيلة لضمان النظام الاجتماعي والسلام؛ فالعقوبات تضمن تحقيق الصالح الاجتماعي، فعدل الله ليس إلا فرعًا من صلاحه، والذي قد يتسم بالقسوة في كبح جماح الأجزاء غير النظامية والمدمرة.
المتعة والألم والثواب والعقاب:
إن المتعة والألم هما مبعث الالتزام الأخلاقي، حيث إن كل الخيرات والشرور تختزل في أنواع معينة من الملذات والآلام، وأن المكافآت والعقوبات تدفع باتجاه الالتزام الأخلاقي. فاللذة والألم هما العاملان الأساسيان المحفزان لكل عمل الإنسان وفكره، وهما حجر الأساس الذي تقوم عليه أفكارنا الأخلاقية والدافع إلى الخير الأخلاقي. فالخير والشر ليسا سوى المتعة والألم، أو ما يجلب لنا المتعة والألم، فالزهرة طيبة، لأن جمالها يثير فينا مشاعر المودة أو السرور، والمرض شر لأنه يثير مشاعر النفور لدى أولئك الذين عانوا من المرض بأي من أشكاله المتعددة، والخير كل ما يقلل الشر فينا، والشر هو كل ما ينتج الألم أو يقلل اللذة لدينا.
والثواب والعقاب نوعان مميزان من اللذة والألم، يحددان نتائج الالتزام بتشريعات المشرع العلوي. والله هو المتفوق المتصرّف في الخير والحكمة لتوجيه أفعالنا إلى الأفضل، ولديه القوة لفرضها بالمكافآت والعقوبات، ذات الوزن والمدة اللانهائيين، في الحياة الآخرة.
العقوبات ليست ضرورية للقانون الطبيعي إذا نظرنا إليها بشكل صارم كنظام من القواعد الإلهية. ومع ذلك، فإن العقوبات ضرورية عندما تعمل الأخلاق كقانون. وهكذا تضمن العقوبات أن الأشخاص الذين يرفضون أن يقودهم العقل، يلتزمون بإملاءات القانون الطبيعي؛ بهذه الطريقة، تضمن العقوبات عمل القواعد الأخلاقية الإلهية كنظام قانوني.
إن الله يقيم العدل في شكل عقوبات أحيانا كوسيلة لضمان النظام الاجتماعي والسلام؛ فالعقوبات تضمن تحقيق الصالح الاجتماعي، فعدل الله ليس إلا فرعًا من صلاحه، والذي قد يتسم بالقسوة في كبح جماح الأجزاء غير النظامية والمدمرة.
القانون الأخلاقي:
إن القانون الأخلاقي عند لوك، بما يصاحبه من مكافآت وعقوبات، وسيلة لضمان الطاعة، وأن الله وضع عقوبات واضحة وصريحة، للتأكد من أن المسار الفاضل سيكون دائمًا الخيار الأكثر جاذبية، فالفضيلة لها مذاق وفاعلية أخرى لإقناع الناس بأنهم إذا عاشوا حياة جيدة في الدنيا، فسيكونون سعداء في الآخرة.
الواجب الأخلاقي:
معظم الناس لا يفهمون واجبهم الأخلاقي بطريقة عميقة أو قوية، وإن معرفة الفرد للواجب الأخلاقي هو أن يكون فاعلًا أخلاقيًا، والمعرفة الأخلاقية هي شيء يكتسبه الفرد من خلال الاكتشاف العقلاني، وأنه يجب أن يكون هناك دائمًا وقت للتفكير في الروح ومسائل الدين، وإذا فشل المرء في القيام بذلك، فعندئذٍ يعتمد المرء في خلاصه وإدراكه لذاته على مجرد تيار للرأي العام، أو على كلام للآخرين غير جدير بالثقة.
الواجب الأخلاقي مفصل للطبيعة البشرية، وهي مجموعة من القوانين الخاصة بالإنسانية، والتي تحكم أفعالنا وفقًا لمشيئة الله. هذه القوانين ليست فقط قابلة للاكتشاف عن طريق العقل، ولكن يتعين على البشر استخدام العقل لتحقيق لاكتشافها. فكلما بذل كل منا جهدًا أكبر في تنقيح قواه العقلية، أدرك كل منا بشكل أوضح الطريق الصحيح للخلاص الأبدي، فالقواعد الأخلاقية هي قبل كل شيء تعبير عن إرادة الله، والالتزام الأخلاقي هو طاعة لسلطة الله الشرعية. والسلوك البشري يجب أن يكون ملتزماً بالقوانين التي سنّها الله، فهذا الكون ليس مجرد كون مُنظَّم اسمياً، ولكنه عالم، يجسد عناية خالق قوي وحكيم، صنع وبنى هذا الكون كله، والبشر مجرد خلق مما خلق، وهم ملزمون بطاعة قوانين الله، لأن الله الأعلى، وهم ملزمون بإظهار الطاعة للحدود التي يفرضها.
العقل يجب أن يستنتج أن العالم مخلوق بإرادة إلهية خارقة، يمكنها أن تجلبنا إلى الوجود، أو تحافظ علينا، أو تأخذنا بعيدًا، أو تمنحنا فرحًا عظيمًا أو تجعلنا نشعر بألم شديد. وهكذا يقودنا العقل إلى معرفة المشرّع، وهو السلطة الإلهية. ويمكن للبشر أن يستنتجوا أنهم ملزمون بتقديم التسبيح والشرف والمجد لله. وأن البشر قادرون على تحديد واجباتهم الأخلاقية وتنظيم سلوكهم وفقًا لذلك.
لا تزال فلسفة جون لوك تحتل اهتمام الباحثين المعاصرين، الذين قدموا لها العديد من الشروح والدراسات النقدية، ونذكر من بينها للأهمية، كتاب جون كولمان "الفلسفة الأخلاقية لجون لوك" لعام 1983، وكتاب أنطونيا لوردو "الرجل الأخلاقي لوك"، لعام 2012، وكتاب "لوك: دليل الحائرين" الصادر عن مجموعة كونتينام للنشر في لندن عام 2010.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.