إن من أهم تجليات عصرنا الحاضر عالما افتراضيا جديدا لا سيطرة مطلقة عليه لأحد، تحتدم فيه رحى حرب ضروس، أطرافها جيوش إلكترونية تحشد وتستنفر، ولجان إلكترونية أمنية تراقب وتتعقب، ومخبرون ومتسللون ومجرمون وجواسيس، وسباق تسلح محموم بأحدث ما توصلت إليه التقنيات الرقمية والتكنولوجية، ووحدات اقتحام، وأهداف تُضرب، وجبهات تشتعل، ومنصات رقمية تؤثر على الرأي العام وتوجهه، وحدود تكتسح، ومعلومات سرية تتسرب، وحقوق تنتهك، وأموال تغنم، وقراصنة يتقاسمونها، وخسائر في العدة والعتاد وربما الأرواح، ومما يؤسف له ويزيد من تعقيد المشهد -فيما يُعد سابقة في التاريخ الحديث- أن الدول والحكومات انتهجت تلك الأفعال غير المشروعة، خدمة لمصالحها وأجنداتها السياسية، حيث ثبت تورط وزارات وجهات سيادية في تلك الأفعال، وكثيرا ما طالعتنا وسائل الإعلام ووكالات الأنباء العربية والعالمية عن تراشقات واتهامات متبادلة بين الدول، حول هجمات سيبرانية شنت عليها، وألحقت بها أضرارا مادية ومعنوية، وخلفت أزمات سياسية.
وفي خضم كل تلك الفوضى تشير كل الشواهد والوقائع، أن المجتمع الدولي ما زال في طور عهد تدوين كل ما يتعلق بتلك السلوكيات والأفعال وتصنيفها، وطرق التعامل معها سواء من الناحية التقنية والفنية أو القانونية، وهو بذلك منقسم على ذاته بالرغم من مرور ما يرنو على 3 عقود تقريبا من السماح لظهور هذا الفضاء الرقمي والشبكة العنكبوتية والتكنولوجيا المعلوماتية وأدواتها المتطورة للعلن، وإتاحتها لتكون في متناول البشرية.
على الجانب الآخر تنبهت الجمعية العامة للأمم المتحدة لخطورة هذ الأمر، فتزعمت حراكا أمميا عجت به أروقة المحافل الدولية، لحث الدول على تبني سياسات جنائية مشتركة لمكافحة تلك الجرائم؛ إلا أن محاولاتها المضنية والدؤوبة، لم تُؤتِ أكلها بعد، وبات من الواضح جليا أن المجتمع الدولي لم يصل بعد لمرحلة النضج والتوجه الصادق للتصدي لتلك الأخطار، والعمل على مواجهتها والحد منها، حيث ما زالت بنود المعاهدات والمواثيق الدولية بشأن الجريمة السيبرانية غير مستقرة، ومحل شد وجذب في المنابر الأممية، خاصة أن ازدواج السياسات الجنائية التي تنتهجها الدول فيما يتعلق بتلك الجرائم إحدى أهم المسائل، التي تعرقل وتعيق التوصل إلى صك دولي ملزم، تشترك فيه جميع الدول من أجل مكافحة الجرائم السيبرانية.
أضف إلى ذلك نشوز العديد من الدول الموقعة على تلك المواثيق ونكوصها عن التزاماتها، وتبنيها لهجمات سيبرانية، والعمل على دعم المجرمين السيبرانيين؛ إما لتصفية حسابات سياسية من شأنها الإضرار بمصالح الدول المعادية لسياساتها ماديا ومعنويا، أو عن طريق تأمين ملجأ آمن لمجموعات الهاكرز والمجرمين المعلوماتيين، وتوفير الحماية لهم من أي ملاحقات قانونية قد تطالهم، وكذلك عدم انضمام دول إلى تلك المعاهدات؛ بسبب افتقارها لقوانين خاصة بتلك الجرائم.
كل ذلك أدى بالنتيجة إلى إرباك تلك الاتفاقيات، وجعل منها صكوكا لم تكتمل فصولها بعد، وعلى ما يبدو أن كل الجهود التي تقوم بها الجمعية العامة للأمم المتحدة وفريق الخبراء التابع لها لن تحصد ثمارها؛ إلا بالخوض في نقاش صريح وواضح وموسع عن تلك الإشكالات الجوهرية، وأن تمتلك القوى الفاعلة في المجتمع الدولي الشجاعة الكافية للعمل مع الهيئة الأممية بروح الفريق الواحد؛ لتبني سياسة جنائية مشتركة والخروج بصك دولي شامل ملزم يتضمن في ثناياه نصوصا عقابية رادعة ضد الدول، التي تخل بتلك الاتفاقيات، والوقوف بجدية لمواجهة تلك الجرائم، التي لا تقل خطورتها وآثارها المدمرة عن خطورة أسلحة الدمار الشامل.
أخيرا، إن من المحبط والمحزن والمخيب للآمال أن يمتد عجز بني البشر عن إحياء قيم العدالة من عالمهم الواقعي إلى عالم افتراضي صنعوه بأيديهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.