مربع إسمنتي كئيب، إن كان الساكن محظوظا ستبلغ مساحته ما يقرب من 7 أمتار مربعة مع حشود بشرية أخرى. وإن لم يكن محظوظا سيكون عليه الاكتفاء بمترين فقط. والمصدر الوحيد للإضاءة (الأمل) فتحة تبلغ مساحتها 10 سنتيمترات أعلى باب من الحديد الصدئ. أول ليلة ستكون الأصعب للضيف أو الساكن الجديد، وستبدو مساحة المترين الخاصة به، والتي تكفي بالكاد لاستلقائه على الأرض، وكأنها لا تكفي لمجرد وقوفه. وسيبدو الهواء ثقيلا لدرجة أن زوجا أو أبا أو ابنا لأسرة ما لن يستطيع التنفس بسهولة، وإن كان قويا وصاحب تجربة سابقة لن يبكي، ويكتفي بليلة طويلة من التفكير فيما مضى وفيما هو آت.
هذه الزنزانة القبر ليست العذاب الوحيد، ولا يسيطر على الحي الميت بداخلها فقط تخوفه من الطعام غير الكافي، فعزاؤه أن قلة الطعام ستقلل من عدد مرات قضاء حاجته. لا يسيطر على عقله كذلك هاجس كيفية النوم في البرد القارس، الذي تزيد الجدران الملساء الإسمنتية من جعله أكثر وحشة. وطريقة النوم بدون سرير على أرض غير مستوية، عذاب فوق العذاب؛ لكنها ليست أشد ما يقلقه.
ما يسترعي اهتمامه في اللحظات الأولى، متى يستطيع أن يرى "ماضيه" والده أو والدته أو زوجته أو ابنه الرضيع؟، سؤال آخر لا يوجد في ذهن بطلنا الحي الميت في ليلته الأولى؛ لكنه يحضر لاحقا، ويتحول إلى هرم أولوياته، متى أرى الضوء؟ ومتى يُتاح لى التريض ورؤية الشمس؟.
يقول قارئ ما أهمية ذلك إلى جانب أهمية الطعام والنوم؟، يرد عليه طاهر بن جلون في روايته (تلك العتمة الباهرة) بأن:
أكثر الأمور الاعتيادية تفاهة، تصبح في المحن العصيبة غير اعتيادية؛
لا، بل أكثر ما يرغب فيه المرء من أمور الدنيا.
أهم ما يجعل الإنسان إنسانا هي القدرة على الخيال. الحنين يحول الحاضر إلى ماض في تصور محمود درويش؛ لكن السجن يحول الحاضر إلى مستقبل، ويحيل الماضي إلى حاضر وهذا أسوأ ما فيه. إن لم تستطع التحكم في خيالك وعقلك طوال الفترة، التي ستقضيها في الزنزانة، ستذبل سريعا. تأتي هنا أهمية رؤية النور والشمس. ما الذي سيثبت للميت أنه حي أكثر من رؤية النور؟ وماذا سيعينه على الليالي الباردة شديدة الظلمة في سجون طرة وصيدنايا وذهبان والوثبة أكثر من معرفته أنه سيرى النور غدا؟.
السجّان على الجانب الآخر يدري ذلك، ويخطط أن يكسر سجينه، ويدفعه دفعا للذبول. سيحرمه من سرير النوم، وستكون ملعقتا أرز فقط فطوره وعشاءه، سيجبره على قضاء حاجته في دلو، وسيغلق فتحة الباب الصغيرة التي يدخل منها الضوء الوحيد، الذي يصل للزنزانة. يريد أن يسرق منه بصره، وأن يصيبه بالأمراض، وحين يمرض لن يعالجه. سيزيد ثقل الوقت على ضحيته؛ لكي يدفعه للتفكير أن دقائقه ساعات، وأن أيامه سنوات. سيحاول سرقة خياله وعقله كما سرق بالفعل بدنه.
في عالم آخر أقرب للفنتازيا يخرج أحد المعتقلين السابقين يحكي عن زنازين أخرى أقرب للغرف الفندقية، وعن سجن يضاهي المجمعات السكنية الفاخرة. يزخر بطاولات البلياردو وصالات رياضية ضخمة ومنتجع صحي، حيث قضى فترة عقوبته المُفترضة، يصحبه فقط 13 شخصا آخر في مكان احتجاز يتسع لثلاثة آلاف معتقل. المثير للتفكر أن سجن طرة يضم العالمين، ولا يفصل بين الزنزانة القبر والزنزانة الغرفة الفندقية، سوى سور حجري واحد.
– بين فيلم البريء وزيارات المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر للسجون.
بين الفينة والأخرى تخرج حملات تحكي عن الأحياء الأموات، ووضعهم داخل زنازينهم، ويجتهد السجّان أن ينفي هذه الروايات، ويروج نسخة مختلقة عن عالم سعيد يحيا به السجين آمنا في سربه، معافى في جسده، وعنده قوت يومه، مستعينا بروايات منظمات حقوقية رسمية، وبصور مفبركة عن سجين سعيد يأكل اللحم، ويجلس بين الكتب، مشاهد استشرفها فيلم البريء ساخرا من السجّان، الذي لم يستطع هضم الفكاهة، وأعاد تنفيذها على أرض الواقع كمشهد جاد.
يقول أحد الناجين: أفظع من الفظاعة التي مورست، نفي وقوعها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.