طرابلس لبنان مدينة معروفة بتاريخها العريق وأسواقها القديمة المتنوعة، يمتاز أهلها بأطيب وألذ الحلويات والمأكولات. وعملهم الدؤوب واخلاصهم في العمل. يعيشون على البساطة في أجواء اجتماعية لم تتأثر كثيراً بالحياة المدنية كجارتها بيروت، يعيش أهلها الآن أصعب الظروف وأقساها ضريبةً لمواقفهم الأصيلة والمشرفة في محاسبة الفاسدين وعدم الرضوخ للطبقة الحاكمة التي كبلت لبنان بأحمالٍ من الديون والكساد الاقتصادي الذي أثقل كاهل الأغنياء فما بالك بالفقراء. عانت المدينة من الكثير من التهميش والإهمال حتى من رؤسائها الذين أقسموا بالولاء لها. لم ينال الشعب منهم سوى الفقر والجوع.
قاد الثوار في شهر أكتوبر 2019 ثورة سلمية جعلت من ساحة النور أيقونة الثورة السلمية في طرابلس ولبنان، عندها رسم المتظاهرون أروع وأجمل لوحة فنية تضامنية ثورية في ساحتها ضد الفاسدين والسياسيين الذين نهبوا البلاد وحولوا هذه المدينة إلى ما هي عليه الآن من إهمالٍ وتهميشٍ، وكان شعار الثورة في جميع أنحاء لبنان "كلن يعني كلن" أي بمحاسبة الفاسدين واللصوص الذين نهبوا البلد من غير استثناء رافعين عنهم حصانتهم السياسية والحزبية والطائفية التي غطت على فسادهم عبر سنوات عدة حتى وصل لبنان لما هو عليه الآن من هبوطٍ في الليرة اللبنانية لما هو دون النصف وكساد الاقتصاد وعجز البنوك.
استمرت الثورة سلمية لعدة أشهر لعل وعسى أن يفهم الساسة أن الشعب لا يريد سوى مصلحة لبنان وليس سوى لبنان. ولا يريد هذا الشعب أن ينقاد نحو أي عملٍ من شأنه أن يقود لبنان نحو المجهول الذي ذاق مرارته سابقًا. لكن ومن غير أدنى شعورٍ بالمسؤولية من الطبقة الحاكمة بل على عكس ذلك تماماً ما زادهم سوى تمسكاً بمناصبهم معطين ظهورهم لمطالب الشعوب بمحاسبة الفاسدين، وجاءت جائحة الكورونا لتزيد على الطين بلة وتزيد من معاناة الفقراء وتضع الحكومة في مزيدٍ من المسؤولية التي لطالما تناسوها وتجاهلوها. هذه الأزمة كان لها دور في الجمود الثوري في الشارع اللبناني من جهة ومن جهة أخرى خلقت ألماً لم يستطع الفقير أن يصمت عنه أو يتعايش معه، ألا وهو "الجوع". توقف الكثيرون عن العمل وتأثرت مصالحهم ومرتباتهم. ومما زاد الوضع سوءً، تجميد البنوك ودائع المدخرين ليها. وتخيلوا حجم المعاناة؛ من لا يملك المال يقاسي الفقر ومن يملك المال لا يستطيع أن يسحب نفوده ليكفي نفسه، وهذا يفسر كل هذا التحامل على البنوك.
هؤلاء الساسة لا يعرفون معنى "الجوع" ألم يقال "الجوع كافر"، ماذا يريد الناس في طرابلس؛ صاح طفل وهو يتظاهر مع المتظاهرين في أنه يريد "ربطة خبز"، وآخر يريد حليب لطفله الصغير، وهذا كله أقل متطلبات الحياة التي يعاني منها الفقراء في طرابلس الآن، وفوق كل ذلك يتَّهم المتظاهرون بأنهم طابور الخامس، ويصبح التطبيل على هذا الوتر شغلهم الشاغل حتى يغلقوا تلك الأفواه الجائعة التي تصرخ غضبًا وحرقة لما يعانون من ألم. ذلك الألم الذي لم يجد آذانً صاغية له بل مزيدًا من التهميش والإهمال. وها هو الآن الجيش في مواجهةٍ مع هذا الفقير، وكلاهما يعاني الفقر والجوع. ونجد البعض يجيش المشاعر للجيش متناسين الفكرة والمضمون لما يحصل في تلك الشوارع، وفي أي إطار يراد لهذا المشهد أن يصاغ ليكون صورة يتكسب بها الفاسدون وتصبح مكسبًا لهم لا وبالاً عليهم. من وضع الجيش في مواجهة مع هذا الشعب الفقير هم المسؤولون عما ينتجه هذا التصادم من كلا الطرفين.
يسأل أحد المتظاهرين: "لماذا لا يذهب الجيش لبيوت الفاسدين ويحاسبهم؟" بينما يتساءل آخر: "لماذا لا يذهب المتظاهرون للتظاهر عند من سرقوا البلد وأوصلها لما هي عليه الآن؟" هذه الأسئلة لا تصب في مصلحة أحد سوى من خلقوا هذه الأزمة على مر كل تلك السنوات السابقة. وما يريده الفقير الآن هو تأمين لقمة العيش لهم ولأبنائهم. نعم الحرق والتدمير والفوضى لن يطعمهم، لكن إلى متى يمكن أن يتحمل هذا الفقير ألم الجوع و"التعتير" الذي يعيشه كل يوم على مضض، والآن طرابلس كلها تعاني من الخذلان وخيبة الأمل والاستغلال الذي تعرضت له من بني جلدتها ممن يفترض لهم أن يوصلوا رسالتهم ويحفظوا أصواتهم من أجل مدينتهم. لم يجنوا من كل هذا سوى سنوات متعاقبة من الفقر فوق الفقر والجوع فوق الجوع، فهل تكون هذه "ثورة الجياع" أم مرارة يعيشونها فوق فقرهم وجوعهم؟!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.