شعار قسم مدونات

ما الشبه بين "كورونا" ورواية "العمى" لجوزيه ساراماغو؟

blogs كورونا

يتوقف "الرجل مجهول الاسم" في منتصف الطريق، يصرخ "أنا أعمى"، على إثره تتوقف حركة السير، يتصاعد صوت السيارات ويجتمع المارة، ما الذي حدث! هكذا يفتتح الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو روايته "العمى"، التي نشرها في العام 1995 لتعد واحدة من أبرز أعماله الأدبية، يتنبأ فيها بظهور مرضٍ غامض أسماه "العمى الأبيض" يصيب إحدى المدن وينتشر فيها كالنار، كاشفاً عن هشاشة الإنسان في مواجهة عوزه.

جميع من في الرواية مجهولو الأسماء، يعرّفون بوظائفهم عوضاً عن ألقاب شخصية، كأن الكاتب أراد ذلك فعلاً، قرأت الرواية منذ مدة، وهذه المرة الأولى التي انتبه لهذه التفصيلة المهمة، عندما نفقد حاسة الرؤية، نفقد معها قدرتنا على التمييز، حينها لا تعود للأسماء أهمية، بل ما يقوم به الأشخاص من وظائف لتعويض النقص الحاد في الكشف عن الأشياء، هذا ما يهم حقاً!

المدينة مرعبة، المحال التجارية منهوبة، الجثث في الشوارع، الرائحة النتنة تعبق الجو، كلاب وطيور ضالة تقتات على أجسادٍ مرميةٍ على قارعة الطرق، هكذا وصفت زوجة الطبيب المشهد بعينيها المبصرتين للمجموعة التي استطاعت الهرب من النيران

الوقت: منتصف ديسمبر الماضي، والعالم على أعتاب الاحتفال بعشريةٍ جديدة. المكان: مدينة وسط الصين، لم يسمع بها العالم من قبل تدعى "ووهان". الحدث: فيروس سيعرف لاحقاً باسم "كورونا" ينطلق على وجه السرعة ليقطع رحلته عبر دول العالم، ليصبح حديث البشر في كل مكان، يا لقدرة المصائب على توحيدنا رغم اختلافاتنا التي لا تنتهي.

يصنف الفيروس المعروف علمياً بـ"كوفيد-19″ كوباء عالمي، أصاب حتى لحظة كتابة المقال أكثر من 169 ألف شخص، وامتص الحياة أكثر من 6 آلاف آخرين، كأن الإنسان على موعدٍ جديد لمواجهة عدوٍ لا يستطيع أن يراه، رغم كل ما أوصلته إليه عبقريته. بالعودة إلى الرواية، يبدأ العمى الغامض في إحلال العتمة في عيون كل من اتصل بصديقنا الذي صرخ في بداية المقال قائلاً بأنه "أعمى"، تتسع الدائرة رويداً رويداً، يبدو أنه ينتقل عن طريق اللمس، لكن الجميع اتفق على أن العمى الذي يرونه أبيضاً مثل هالة، إنه غريب من نوعه، لم يعرفه البشر من قبل، ونحن ضعفاء أمام ما نجهل.

تقرر الدولة في لحظة ما، نقل المصابين والمشتبه بإصابتهم إلى مركزٍ للحجر الصحي، هو في الحقيقة مكان قديم ومتسخ كان مخصصاً للمرضى العقليين أو من نقول عنهم في الدارجة "المجاذيب أو المجانين"، يتم نقل المرضى بالقوة، أولاً المصاب الأول (سائق السيارة)، ثم الطبيب المعالج وزوجته التي ادّعت العمى لتبقى برفقة زوجها، ثم رجل ذو عصبة سوداء، ثم صبي أحول، ثم فتاة ذات نظارة سوداء… تتوالى الأحداث.

الأزمة تكشف عن هشاشة الدولة وضعف بنيتها التحتية في التعامل مع هكذا أزمات، فتقرر أن تعزل المرضى وتحيط المكان بعناصر من الجيش، وتطبق إجراءات صارمة تصل إلى حد القتل، إن فكر أحدهم بالهرب عبر السياج. يجد المصابون والمشتبه بإصابتهم أنفسهم في وضعٍ بدائي، تستيقظ فيه غرائزهم، يصبح توفير الطعام والذهاب لقضاء الحاجة والنوم هو الهم الأول، الطبيب بعد أن باركه الجميع ضمنياً، يقوم بمهمة تنظيم حياتهم المشتركة، بمساعدة زوجته، الوحيدة التي تبصر بينهم!

مع الوقت، تزداد أعداد الزائرين الجدد للمستشفى القديم، حصص الطعام التي تقدمها الحكومة تصبح أقل، يتزاحم المرضى في مساحةٍ تضيق عليهم، لينشأ صراع حاد، كلٌ منهم يحاول أن يؤمن طعامه، أياد تلوح في الفضاء، في حين تغرق الأعين في حليبٍ أبيض لا يقطعه سوى ساعات قليلة من النوم. يحاول أحد المصابين الخروج للمطالبة بحقه في العلاج، فقدمه تنزف بحدة، يقترب من السياج، الجنود يصرخون "توقف وإلا سنطلق النار"، المصاب يتحرك للأمام كيفما اتفق، أحد الجنود قال لاحقاً أنه أصابه الرعب فأطلق النار، رسالة واضحة لكل من في الحجر "التزموا أماكنكم"، الجدير بالذكر الجندي الذي أطلق النار أصيب بالعمى في وقتٍ لاحقٍ من الليل.

الحجر الصحي امتلأ حتى آخره، جثث المصابين في الممر بين الغرفتين، المصابون بالعدوى والمحتمل إصابتهم، الجثث جاءت نتيجة إطلاق نارٍ آخر من قبل الجنود، حين ثار المرضى على تأخر علب الطعام، يتصارع المقيمون في الحجر، كيف سندفن الجثث؟ ومن سيقوم بالمهمة؟ مرّ الوقت ثقيل، في إحدى الغرف تقرر مجموعة من المرضى لها تاريخ طويل في التعدي على حقوق الآخرين، أن تحصل على الغذاء بالقوة، يحصلون على العلب ويفاوضون البقية، الطعام مقابل الجنس، نمارسه مع نسائكم فتحصلون على الطعام! يقولون لتعرف حقيقة الإنسان جرده من القوانين والعقوبات، وانظر كيف يتصرف؟!

يزداد المرض في الخارج، المدينة تنهار، الحكومة تصاب بالعمى الأبيض، وسائل الإعلام تتوقف، لا أحد في الداخل يعرف ما يجري في الخارج، الجنود على الأسوار يغرقون هم أيضاً في عمى أبيض، تشتعل النيران في أحد عنابر المستشفى عن طريق الخطأ ربما، يهرب من استطاع، والآخرون يلتهمهم اللهب الأحمر، وكأن مصائرهم مرتبطة بالألوان.

المدينة مرعبة، المحال التجارية منهوبة، الجثث في الشوارع، الرائحة النتنة تعبق الجو، كلاب وطيور ضالة تقتات على أجسادٍ مرميةٍ على قارعة الطرق، هكذا وصفت زوجة الطبيب المشهد بعينيها المبصرتين للمجموعة التي استطاعت الهرب من النيران، يشقون طريقهم في محاولةٍ أخيرةٍ للبقاء.. هل سيبصر هؤلاء في النهاية؟ أم أنهم سيغرقون في عمى أسود غير متناهي هذه المرة؟

من المهم إخباركم أن الرواية تحولت إلى فيلم حمل الاسم نفسه "العمى"، وأخرجه فرناندو ميريليس، وتم عرضه عام 2008 لأول مرة خلال مهرجان كان السينمائي. أجد نفسي أفكر في الرواية كثيراً منذ بدء انتشار "كورونا"، هل سيجد العلماء علاجاً في الوقت المناسب؟ أم أن "كورونا" عمى أبيض آخر؟ في الأزمات الإنسانية تستيقظ هواجس أخلاقية ليس بآخرها… صوتك الداخلي عندما تسمع عن شخص أصيب بالفيروس، فتقول في سرك "الحمد للإله" أنه اختاره هو لا أنت!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان