الرواية طائرُ حمامٍ يحوم في فضاء الآداب ليتبوأ أجلَّ المراتب، كيمياء كلماتٍ لا تثبّط فراسخ السنين نتاج تفاعلها في أذهان القرّاء، وتنقل كل من يلامس أغلفتها الى مَوَاطِن الكتّاب وعوالمهم الخاصة، بما في ذلك آلامهم المنتحبة ومطالبهم الصارخة، فكلُّ زيادةِ انغماس في صفحاتها تعني اجتياحاً لماضٍ قد أُفنى أو مستقبلٍ متكهنٍ به، فما بالكم بروايةٍ صُهرت تحت جناحي شاعرٍ كـ أيمن العتوم، تتوغلُ بسلاسةٍ بين جدران سجون احدى الدول العربية، تعانق أوجاع أحد المعتقلين السياسيين في زنزانته الانفرادية، وتبسط مفرداتها بين أيدي المتعطشين للحيوات خلف القضبان.
لأكون صادقة، لم أقرأ (لا بل التهم) سوى اثنتان، وأغفلت الثالثة التي تتشابه وإياهما في النوع، لشدة ما خلفتاه من آثر لاذِعٍ على أيامي، لكنني وجدت فيهما ما يكفي لجعله نقاشاً مستحقاً، إذ نتحدث عن الدول العربية، فإن تهمة "تهديد أمن الدولة" تخصُّ بشباكها العقول الأدبية والنفوس المتقدة بالمعرفة، ولم تكن قصائد شاعرنا قصيّةً عن تهمةٍ كهذه، فكلماته التي اسموها (طولة لسان) القت به داخل أسوار السجن مدة ثمانية أشهر، معاناةٌ خطّها بحروفٍ دامية في روايته المسكونةِ بالشعر "يا صاحبي السجن"، معاناةٌ لا تضاهي بقسوتها مااعترى أبطال عمله المرهق للمشاعر "يسمعون حسيسها".
إن حاجتنا كشعوب عربية لمعرفة ما تخفيه الجدران من اختراقٍ للكرامة وتشويه لكل جوانب الإنسانية يمكن إشباعها بروايةٍ واحدة مختارة بروية، لا لكونها شاملة؛ إنما لتماثل المراحل المفترض للمواطن ولوجها في حال تخطيه حدوده الملزمة، وسير الأنظمة داخل تلك الأقفاص بطرقٍ موحدة مضمونة النتائج التهميشية، مع اختلاف قسوة المشهد على حسب المكان والزمان الموافق للأحداث.
مرحلة التحقيقات الأولى تنطوي على هالةٍ من الخوف والتردد، الى اين ستودي بهم اعترافاتهم او تكتماتهم المقاومة للتعذيب النفسي والجسدي، تقصّي مخاطر الغابة التي غفلوا عن وجودها قبل قدومهم إليها، وزجهم في أعماق قذارتها، ترّقب مستمر لساعات المواجَهة الشرسة مع المحققين أصحاب الملامح الغائرة، والسقوط بين أيدي الجلادين معدمي القلوب، برمجة الدماغ والجسد على تقبّل الحرمان من الطعام والنوم والراحة، وانعدام الاحترام للنفس البشرية.
إن كانت القراءة تبعث هذا القدر من الأوجاع، فتحياتي لـ أيمن العتوم وغيره من الكتّاب، ممن يسحقون أنفسهم ليالٍ عديدة لينقلوا لنا صورةً حقيقية عمّا تخفيه الحياة من دروب شقاء وطول انتظار |
رفض السجين للإذلال وشعوره بتقلص حجمه أمام كمية الإهانات التي يتعرض لها أمر طبيعي، يكمن التحدي لدى المعتقلين بالقدرة على التعايش مع هذا الاحتقار للذات، باعتباره الوسيلة الوحيدة للنجاة والبقاء على قيد الحياة، إذ مامن طريقة للانتقام داخل مستوطنات يحكمها الخبثاء ويشرف عليها العبيد الأعلى مرتبةً في مملكة العبودية، لا طريق للثأر سوى طول الأناة والتأمل بالقادم الفسيح.
تمثل أرقام الزنازين محور فصول حياة قاطنيها وعلامةً فارقة في ذاكرتهم، على الرغم من ضيق حجمها وحجبها عن الإضاءة -إلاهيةً كانت أم كهربائية-، عن نسمات الريح في الصيف والتدفئة في الشتاء، وخلوها غالباً من قطع الاثاث كافة، الا أنها مردهم الوحيد بعيداً عن التشبيح والتشهير، منفذهم لعيش الخيال والذكريات حلوة المذاق.
ما إن تثبت التهمة على السجين بنظر القضاة، حتى يصبح منسياً من الزمان ومفقوداً في المكان، تمتد الأشهر والسنوات الى اللانهاية وتنحصر الآمال بانفتاح بابٍ وحيد يطلُّ على العالم الخارجي، لأن للإنسان طرقه المبدعة في إيجاد ما هو خير وسط مستنقعٍ من الشقاء، كان أيمن العتوم يكرر القول: (إنّ السجن حياةٌ داخل حياة.. مدينةٌ داخل مدينة)، في جمرة الألم تولد الأفكار لتفسر لغز الحياة، وبين الأرواح المعذبة تنشأ صداقةٌ مقدسة، مرممة للجروح، في السجن حياة أخرى معالمها لوحةٌ حمراء باكية.
ما إن تُقبل على قراءة رواية ك"يسمعون حسيسها" فأنت مجبرٌ على تلقي الضربات واستنزاف الكرامة صفحة تلو الاخرى، مجبرٌ على مشاركة الكاتب ما عايشه من تعاسة خلال كتابته سطور الرواية، ابقتني تلك الرواية مدة تزيد عن الشهر بحالةِ قلقٍ وحزنٍ هستيري، ولم يحدث أن غادرني السؤال ذاته: كيف للإنسان أن يحمل هذا القدر من الألم دون أن تراوده فكرة التخلي عن الحياة، التي كان طريقها سهل المنال (معارضةٌ واحدة لقوانين السجن)!، لمَ كلُّ هذا التعلق بالحياة؟ إن كانت القراءة تبعث هذا القدر من الأوجاع، فتحياتي لـ أيمن العتوم وغيره من الكتّاب، ممن يسحقون أنفسهم ليالٍ عديدة لينقلوا لنا صورةً حقيقية عمّا تخفيه الحياة من دروب شقاء وطول انتظار.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.