لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار الأمومة سباقا، وليس الحصول على لقب أم يعني أنكِ الأفضل أو نلت شرفاً لم تنله من لم يكتب الله لهن الإنجاب أو من لم تستطع إيجاد شريك عمر وأب مناسب لأطفالها. وليس المهم في الأمومة الألقاب ولا الصفات المجردة من الأفعال، بل قدرتك على تقدير هذه المعجزة عند حدوثها، فهي عهد بينك وبين الله أولاً ثم ذاتك وطفلك بتقديم طفل صحيح نفسياً للمجتمع منتج وقادر، ولا اقصد بالمنتج أن تغرسي في عقل طفلك أنه طبيب أو مهندس أو أنه لا يصبح رجلاً الا بحساب بنكي بالملايين، أو أن تحضري طفلتك لتكن منزوعة الأحلام بلا أهداف علمية أو عملية، لتحلم فقط بفستان الزفاف وفارس بحصان أبيض، بل غرس مفهوم الإخلاص في العمل والعطاء.
كانت الحياة قبل قدوم طفلي منظمة ظاهريا، ذلك الاطمئنان أن جميع الأمور يمكن إنجازها في الوقت المناسب وأن كل ما تحتاجه الأنثى خلال النهار هو التنفس بهدوء والغوص عميقاً فيما تصنعه، وبعد قدوم صغيري عُمَر بدأت أشعر أن الوقت حان من أجل خطوات أسرع، وكلما تقدمت الأيام تزداد وتيرة خطواتي لينتهي بي المطاف اركض نهاراً لإنجاز أعمالي، وأخطط لليوم التالي في أحلامي.
كنت أرى الأمومة بإطار خارجي، لم أتعمق معانيها، قرأت مقالات حول التربية وتابعت بعض صفحات الأمومة أثناء فترة التحضير لاستقبال طفلي، فتصورت أن الأمومة سهلة بسيطة طفل صغير تحتضنه إذا بكى، تمسح على رأسه حين يشكو المرض فيشفى، وتغلق عيناك ليلا وهو متعلق برقبتك فتنام مطمئنا كمن ملك الدنيا وما فيها، كنت أظن أن الركض خلف الأطفال سهل، وأن الأمهات اللاتي يقفن حول الالعاب خوفا على تعثر أطفالهن يستمتعن بالهواء والشمس، وأن الأب يعود الى منزله حاملاً معه أكياس الحاجيات وبحضن دافئ يزيح تعب الحياة ومنغصات العمل، لكن هذه النظرة السطحية لم تغص ولا مرة في مفهوم التربية الحقيقة حتى أصبحت أم.
العديد من الأمهات ينقلن تجربة الأم المغتربة، ويصورنها على أنها حدائق ومراكز مجانية للأطفال مواصلات عامة منظمة، في بلاد ضمن تخطيط مدنها تحترم الأم والطفل واحتياجاتهما |
ماذا يريد الآباء لأبنائهم؟ أن يتجنبوا أخطائهم، أن يسبحوا في مياه هادئة، لكن ما يغفل عنه البعض أن التربية لا تكون أبدا بالأمر والنهي، فأبناؤكم هم مرآتكم العاكسة وان لم يعجبكم. فهل من الممكن أن تجبر طفلك على رمي الورقة في سلة القمامة في المنزل إن كنت أنت ترميها في الشارع العام، او هل ستمنع طفلك من التفوه بألفاظ نابية إن سمعك تكيل الشتائم لسائقي السيارات المقابلة لك في الشارع أو الباعة المتجولين.
هذه الأيام خرجت علينا الكثير من صفحات التربية الحديثة على مواقع التواصل الاجتماعي، أمهات مبتسمات تعطيك نصائح تربوية، كيف تحترم رأي طفلك، تسمعه ويسمعك تحاوره عند مجادلتك، بيوت مفتوحة لنا عبر شاشة الهاتف مكتظة بالألعاب التربوية والعقلية لأطفال يخيل إلينا أنهم أكثر ذكاء وسعادة من أطفالنا، الملفت هو حجم التفاعل من الأمهات، إحداهن تتسائل لماذا ابني لا يستطيع إنهاء هذه اللعبة وهو بعمر ابنتك، وأخرى تشتكي عدم قدرة ابنتها على حفظ الأرقام، وتلك ابنها ذو الثلاث سنوات لا يستطيع تمييز الأحرف، هذه الصفحات خلقت لنا هوس الكمال الظاهري لأطفالنا. ولكننا لم نصل إلى قيم التربية الحقيقة بعد.
تابعت ولا زلت العديد من الأمهات اللاتي ينقلن تجربة الأم المغتربة، ويصورنها على أنها حدائق ومراكز مجانية للأطفال مواصلات عامة منظمة، في بلاد ضمن تخطيط مدنها تحترم الأم والطفل واحتياجاتهما. ومن المتلقي في الغالب، أم تعيش في وطننا الأم الذي يستثني الأطفال من معظم خططه الاستراتيجية والنتيجة أم مصابة باكتئاب الانستغرام.
نحن لا نبحث عن التربية فيما بين أيدينا، مثلاً مكتبة عامة قريبة وان لم تتوفر فكتب بسيطة نقرأها لطفلنا أو بضع آيات من القرآن، إضافة صلاة الجماعة في المسجد إلى تفاصيل يومنا، زيارة بعض الأصدقاء أو الأهل والحديث عن صلة الرحم، التبرع بما فاض عن حاجتنا من ملابس أو إرسال طبق من طعام إلى منزل جارتنا الفقيرة في الحي معا ثم تمرير مفهوم التكافل إلى سلوكه وجعلها عادة أسبوعيه أو يومية لمن يستطيع، ولا نغفل التنزه والترفيه عنا وعنهم ضمن إمكانياتنا والمتوفر.
لا يجب أن نبقي الأمومة محصورة حول اختيار نوع الفوط الأفضل، وكم من الحليب سيشرب وإن كان يعاني من المغص أو يشعر بالحر او البرد أو الملل |
مفاهيم التربية الحديثة تبقى ناقصةً أن لم تطابق أقوالك أفعالك، وتلك المثالية المبالغ في تصويرها لنا بقدرة أمهات الإنستغرام ومواقع التواصل الاجتماعي بالتعامل مع حالات الغضب والصراخ التي يمر بها الطفل تشعر الأم بالفشل أو الإحباط، أنا أعترف أني أستسلم في بعض الأحيان للصراخ، أشعر بالحرج والضغط وأتوتر من نظرات الناس حولي في مراكز التسوق، أشتري ما لا أرغب به أحيانا لأني لست مثاليه، ثم إن لي طاقة على تحمل الإقناع، ولي وقت ومواعيد أركض خلفها لا يمكن تجاوزها بالجلوس أرضا ومحاولة اقناع طفلك لساعة أن البكاء والصراخ لن يجدي نفعا، هناك قواعد ثابتة عند كل شخص لا يجب تجاوزها بناء على قناعاته الخاص لا تنطبق علينا جميعاً بذات المقدار والصرامة.
لا يجب أن نبقي الأمومة محصورة حول اختيار نوع الفوط الأفضل، وكم من الحليب سيشرب وإن كان يعاني من المغص أو يشعر بالحر او البرد أو الملل، فأنا لم أفهم قبل معنى أن تقفي بالساعات تحت أشعة الشمس الحارقة لتتابعي بنظرك طفلك الذي لم يمل أبدا من التعثر والنهوض لتجعلي من جسمه الضعيف رجلا قويا، وكيف أني أشعر برغبة باحتضانه كلما بكى أو سقط أو رفض أحد الأطفال اللعب معه، ولكني أمنع نفسي وأراقب كيف يطور شخصيته وقدرته على التعامل مع الأحداث.
كل الأمهات ترغب في طفل ذكي مرح يغدو شابا قوي البنية متفوق تتباهى به، ذات يوم سألني عُمَر لماذا تحبيني، ففكرت هل أحبه لأنه طفل سليم، وهل الأم التي طفلها مريض لا تحبه، هل لأنه يتحدث يمشي يأكل يلعب يحضنني ويخبرني انه يحبني، كلا. هي كماليات الحب لا الحب نفسه، أجبته أني أحبك لأنك أنت، وكل ما أحلم به لك أن تكون سعيد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.