سنغافورة.. بلد اسيوي لا تزيد مساحته عن 710 كم وعدد سكانها لا يزيد عن ستة ملايين نسمة مما يناسب تماما أن يطلق عليها اسم الدولة المدينة، فهي مدينة صغيرة المساحة ولا تمتلك أي ثروات طبيعية.. خرجت هذه الدولة من الاتحاد الفيدرالي الماليزي عام 1963 ولم تكن تملك شيئا من الموارد، وكان معظم سكانها تحت خط الفقر، فما كان من نظامها إلا أن انتبه لوجود ثروة أخرى بين يديه، ثروة من البشر. وبتخطيط صحيح وعمل متدرج قام هذا البلد ببناء مواطنيه في مجالات مختلفة، حتى أصبحت هذه المدينة الدولة رائدة في عدة مجالات، خاصة مجال التكنولوجيا الحيوية والسياحة والنقل، وارتفعت هذه الدولة لتصبح واحدة من أعلى دول العالم من حيث دخل الفرد واقل دول العالم فسادا.. فيا ترى ما الذي يميزهم عنا؟
أغلى ما تملكه الشركات ليس المباني ولا المصانع وإنما هو موظفوها خاصة المتميزون منهم، لذلك تسعى كل شركة كبرى للحفاظ على موظفيها المبدعين، وعدم التفريط بهم أبدا لأنهم جزء من رأسمال الشركة، وحتى عندما تباع الشركات يتم حساب جزء من قيمتها بما تمتلكه من عمال وموظفين مهرة وهي قيمة قل النظر لهما في عالمنا العربي، وتسعى كل شركة لتطوير عمالها بكافة الوسائل والطرق، من خلال التطوير العملي والعلمي والتقني والذاتي حتى تزيد من كفاءة العمال وتضمن جودة المنتج.
وتسعى كل شركة لتقديم منتجات جديدة ومتطورة في كل عام، من أجل الحفاظ على حصتها السوقية وزيادة مبيعاتها وأرباحها، كل ذلك لا يمكن أن يتم ما لم يكن هنالك موظفون قادرون على إضافة الجديد والمتميز، مما يحتم على هذه الشركات الاستثمار في موظفيها بصرف ميزانيات مقدرة للتدريب والترفيه.
قد تواجه بعض المشاريع البحثية وربما الكثير منها الفشل لكن يجب ألا ننسى أن المخاطرة جزء أساسي من أي بحث، وبحسابات الربح والخسارة فإن كل تجربة فاشلة تزيد من خبرة الإنسان أكثر |
ولا تقتصر أهمية تطوير الإنسان على الشركات فقط، لكن يقع على عاتق المؤسسات الحكومية مسئولية أكبر في تطوير أفراد المجتمع، ويجب وضع خطط كبرى لتنفيذ استراتيجيات تطوير الفرد والمجتمع للوصول إلى أفراد منتجين في كافة المجالات، فكل عامل متميز ينتقل من خانة العالة على الدولة إلى خانة الرافد لها، فهو يرفدها بجزء من راتبه كضرائب، ويرفدها بما يبدعه من أفكار قادرة على سد احتياجات البلد مما يحد من الاستيراد من الخارج، وكذلك بما يمكن تصديره وبالتالي يرفع من قيمة البلد، ويؤدي لزيادة الدخل لينعكس بالرخاء على كامل البلد.
كل واحد منا بحاجة لثورة في نفسه وفي مفاهيمه وفي طريقة حياته وفي تخطيطه لمستقبله، والمسؤولية مشتركة بين الفرد والمجتمع كل عليه مسؤولية وله حقوق، عندما يكون الإنسان قادرا على أن يكتفي بنفسه دون الحاجة لأن تدعمه الدولة بشيء، عندها يكون قد انتقل من مرحلة الأخذ إلى العطاء، وهو ما يجب أن تسعى له كل الدول وكل الحكومات، لكن للأسف بسبب التخطيط الخاطئ لا زال الفقر والجوع والجهل والتخلف والفساد ينتشر في كل مكان، ولا زال معظم موظفي البلدان العربية، الذين يقدر عددهم بالملايين غير قادرين على الإبداع بتاتا، لأن التخطيط مفقود تماما وكل عملهم معتمد على الروتينية وعدم التنظيم.
لدينا متخصصين في كل المجالات ونحتاج فقط لخطوات جريئة من كافة الجهات في البلاد نحو وضع منظومة متكاملة لتطوير الأشخاص.. ماذا لو وضعت شركة كبرى 10 بالمائة من هامش أرباحها في مركز علمي للأبحاث في مجال عمل الشركة، ونترك هذا المركز ليعمل وفق أسس علمية بدون توجيهات بيروقراطية تحد من الإبداع، مع وضع شروط للاستفادة من نتائج البحوث ولو بنسب لهذه الشركة.. بالتأكيد ستكون هنالك الكثير جدا من النجاحات التي ستحققها هذه المراكز، مما يعني ظهور طبقة من علماء البلد المتميزين، وانظر إلى دول الصين والهند وكوريا الجنوبية التي نجحت في ذلك نجاحا منقطع النظير مما قاد لجعلها من أعلى الدول في العالم في النمو الاقتصادي.
قد تواجه بعض المشاريع البحثية وربما الكثير منها الفشل لكن يجب ألا ننسى أن المخاطرة جزء أساسي من أي بحث، وبحسابات الربح والخسارة فإن كل تجربة فاشلة تزيد من خبرة الإنسان أكثر، المهم والمهم فقط كيف يستفاد منها. الإنسان هو عصب الحياة، وعندما نهتم به فسوف نستفيد وتستفيد دولنا، وكل شخص بداخله طاقة كامنة وأفكار مبتكرة يمكن أن تستفيد منها الانسانية جمعاء، فقط يجب أن يتعلم كيف يطلقها. إذن لنستثمر في الإنسان.. فهو انجح استثمار، وهو المشروع الوحيد الذي لا يمكن أن يخسر.. فقط لنجرب..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.