الديكتاتور منجستو هيلا مريام نموذج بارز ونادر للديكتاتوريين الأفارقة رغم تعددهم، فقد توافقت حياته في صعودها وهبوطها مع المُتغيّرات الدولية والتوافقات الإمبريالية على نحو نمطي لا يُمكن أن تُخطئه العين، حقّق للغرب أقصى ما يُمكن من قمع شعبه وإيقاف تنميته، وضياع بوصلته، وتأسيس عداواته القبلية والعصبية، مع انسحاق تامِ أمام الشرق وماركسيته المعلنة من ناحية، وأمام الغرب وإمبرياليته الخفية من ناحية أخرى، وبدون مُقابل حقيقي.
ولد الديكتاتور منجستو هيلا مريام عام 1937 ولما بلغ الأربعين في 1977 استطاع أن يصل إلى رئاسة إثيوبيا بالحديد والنار بعد أن اشترك في الانقلاب العسكري على الإمبراطور هيلاسيلاسي في 1974 ولم يظهر في صدارة المُنقلبين للوهلة الأولى لكنه كدأب الذين يُخطّطون لخطف منصب الرئاسة قاد سلسلة من التحالفات والصراعات عبر ثلاث سنوات من 1974 وحتى 1977 وأنجز فيها ما يُمكن وصفه بأنه عدد من المهام القذرة التي تُعتبرُ في عُرف الانقلابات العسكرية بمثابة إنجازات ذات طبيعة خاصة، ومن هذه الإنجازات على سبيل المثال الخلاص من حياة الإمبراطور هيلاسيلاسي ودفن جثته تحت أحد حمّامات القصر الرئاسي (1975) لكن الأهم من هذا هو حربه الشعواء على كل حزب من الأحزاب الجماهيرية كان مؤهلاً لقيادة التحول السياسي الديموقراطي وفي مُقدمتها الحزب الثوري الشعبي الإثيوبي.
كان من الطبيعي أن يسقط الديكتاتور منجستو هيلا مريام مع سقوط حائط برلين ثم مع تفكُّك الاتحاد السوفييتي، وبالطبع فإن خاصة القصور الذاتي مكّنته من البقاء لبعض الوقت وليس السقوط في نفس اليوم الذي سقط فيه الاتحاد السوفييتي |
وصل الديكتاتور منجستو هيلا مريام إلى رئاسة الجمهورية في 1977 بعد أن أعلن عداء صريحا ومُستفزاً للعروبة والإسلام مُغدّيا بهذا شعوراً شعبوياً لا يمتُّ للسياسة ولا للمصلحة بأيّة صلة لكنه كان يستغل الأدبيات والفولكلوريات الشعبوية التي تتميّز بتكامل الهجوم النظري على الإمبريالية وعملاء الإمبريالية، وفي مقابل هذا حصل الديكتاتور منجستو هيلا مريام على ما كانت النُظُم الشيوعية في موسكو وحلف وارسو وكوبا تُقدمه لأمثاله خصما من أقوات شعوبها، وهي مساعدة كانت تكفي لمنع الغرق لكنها لم تكن تضمن استمرار الطفو، ولجأ الديكتاتور منجستو هيلا مريام إلى كلّ التحالفات السرية التي تُمهد له أيَّ عون أو اعتراف غربي أو تمنع عنه العقوبات والتشهير وهكذا مكن لكثير من السياسات الأمريكية والصهيونية على أرض أثيوبيا من دون أن ينتبه العرب والمسلمون والأفارقة لخطورة هذا الذي يندفع إليه ديكتاتور أحمق لم يكن يهمُّه إلا البقاء في كرسي السلطة على حساب أرواح شعبه.
وليس من قبيل المبالغة القول بأن هذا الديكتاتور قتل من شعبه عددا يفوق المليون أو المليون ونصف! ومن العجيب في تاريخ هذا الديكتاتور أنه على حين كانت مصر والسعودية في خلافهما التقليدي المعروف عقب توقيع معاهدة السلام فإنه في إحدى خُطبه في 1979 قام بحركة مسرحية حطّم فيها زجاجات مملوءة بالدم على اسم مصر والسعودية. لجأ الديكتاتور منجستو هيلا مريام أيضا إلى التلاعبات اللفظية في استخدام أسماء مُتعددة للنظام الشمولي، ووصل به الأمر في 1987 أي بعد عشر سنوات من الحكم إلى أن غيّر اسم الدولة نفسها، وهو سلوك عُتاة الديكتاتوريين الذين يعتبرون أنفُسهم أكبر من الكيان الذي يحكمونه، وهكذا أصبح رئيساً لجمهورية إثيوبيا الشعبية الديموقراطية من 1987 وحتى 1991 بعدما كان رئيساً لإثيوبيا التي لم تكن تضع في اسمها كلمة شعبية ولا كلمة ديموقراطية من 1977 وحتى 1987.
كان من الطبيعي أن يسقط الديكتاتور منجستو هيلا مريام مع سقوط حائط برلين ثم مع تفكُّك الاتحاد السوفييتي، وبالطبع فإن خاصة القصور الذاتي مكّنته من البقاء لبعض الوقت وليس السقوط في نفس اليوم الذي سقط فيه الاتحاد السوفييتي أو حائط برلين من قبل، وفي هذه الفترة التي منحها له الزمن بفعل القصور الذاتي ظهر ذكاؤه الماركسي العملي إذ تمكّن من الهرب إلى زيمبابوي متفاديا ما كان حتمياً من تمكُّن التمرُّد منه ومن رأسه. جرت محاكمة الديكتاتور منجستو هيلا مريام في إثيوبيا، وثبت عليه اشتراكه في القتل الجماعي، وأُدين بحكم نهائي في ديسمبر 2006 لكن الحكومة الزيمبابوية قالت إنه يتمتّعُ بحق اللجوء السياسي وإنها تُقدّر له دوره في دعم كفاح زيمبابوي من أجل الاستقلال وهو دور شمل التدريب والسلاح، والمساعدة في تأسيس القوات الجوية الزيمبابوية.
استأنف الديكتاتور منجستو هيلا مريام الحكم الصادر في حقه أمام القضاء لكن المحكمة العليا في إثيوبيا حكمت عليه في 2008 بالإعدام، وذلك بدلاً من الحكم الذي كان قد حصل عليه من قبل بالسجن المؤبد، أي أن الاستئناف جاء في غير صالحه (وذلك على عكس ما يقضي به النظام القضائي المصري). يعيش الديكتاتور منجستو هيلا مريام الآن مذعوراً من أن تتغيّر الظروف فتُسلّمه حكومة الدولة التي لجأ إليها، فيلقى مصيره بالإعدام. تخطّى الديكتاتور منجستو هيلا مريام الثمانين من عمره، بسجلِ لا يتضمّنُ كثيراً من الفخر ولا الإنجاز، لكنه يحفل بالإرهاب الشيوعي المُفرط الذي لم يقف عند حد، ويحفل بإساءته التعامل مع تاريخ شعبه ووطنه، وعلاقاته وانتماءاته، وقد تمكن الثوار الأرتيريون من هزيمته أكثر من مرة حتى استطاعوا تحقيق الاستقلال لوطنهم الذي استعمره سلفه الإمبراطور هيلاسيلاسي بالختل والخديعة والغدر.
كان الديكتاتور منجستو هيلا مريام حريّا بأن يكون زعيما لبؤرة شيوعية ماركسية في غرب البحر الأحمر تتضافر مع الانقلابات العسكرية الماركسية أو الشيوعية في اليمن الجنوبي في شرق البحر الأحمر وأن تزدهر هاتان البؤرتان مع مرور الزمن، لولا سقوط حائط برلين والاتحاد السوفييتي. كان وجود الديكتاتور منجستو هيلا مريام في السلطة كاشفاً لمدى القصور في السياسة الخارجية لمصر والدول العربية وهو قصور لا يُمكن ترتيب أيّ دفاع عنه ولا قبول أيّ اعتذار له، لكن طبيعة النظام العسكري في مصر لم تكن بقادرة على أن تتجاوز الصورة المخابراتية في علاقتها مع إثيوبيا رغم خطورة هذه العلاقة على الأمن القومي، وهي حقيقة فطرية وفسيولوجية أدركها المصريون منذ عصور قدماء المصريين ولم تفرّط فيها مصر إلا في عهد ثورة 23 يوليو 1952.
أما هجرة الفلاشا إلى إسرائيل فكانت بكلّ ما تكشف عنها وما لم يتكشّف عنها حتى الآن صورة بانورامية مُتعدّدة الوجوه لسوء سياسة الديكتاتور الماركسي وإن كان الأهم من هذا أنها كانت تعبيرا عن تنامي الفشل السياسي العربي في كلّ القضايا المصيرية وذلك بما كشفت عنه من سيطرة قوى غير مسئولة (كتجار السلاح وسماسرته) على القرار العربي والإفريقي في قضايا مصيرية في وجود حكم انقلابي عسكري كالذي كان منجستو يقوده ويحقق للغرب وإسرائيل من خلاله مالم يحققه الامبراطور هيلاسيلاسي نفسه وهو الذي صورته أدبياته منتميا للطائفة السليمانية اليهودية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.