تعقدُ النوايا باختلافٍ متوجهةً إلى بيت من أعظم البيوت على وجه المعمورة، وكيف لا يكون أعظمها وأجلّها وهو بيت مخصص لرب السماوات والأرض وما بينهما، وما تحت الثرى، وصلت الأجساد والنواياً معاً إلى المكان القصد: بيت الله، فجأةً تنظر يُمنةً ويُسرةً وإذا بدواليب قد زُيّنت وبهرجت ورصت لغايةٍ ما؛ لكن أصحاب النوايا المتشعبة يبدو أنهم لم يفهموا الغاية من وراء تلك الدواليب، ولم يعوا لماذا هي أصلا قد كانت بمكانها، وإلا وكيف وأحذيتهم مرمية متناثرة في كل مكان سوى فيها (الدواليب)؟! أللهم إلا الندرة، لكن بيت القصيد مالذي يفسر ذلك؟ لماذا نجد في مساجدنا دواليب خاوية على عروشيها وأحذية بجانبها مرمية مبعثرة مع أن الأولى وضعت للثانية؟ وهل لهذه الرمزيّة الغير حضاريّة دلالة معينة قد تتعلق بفهم معين لقيم الإسلام العالية؟
الناظر بعين مبصرة وعقل مجرد للنص الإسلامي الصافي وواقع المسلمين سيدرك أن بينهما ما بين السماوات والأرض من فوارق. قد يقول القائل: إن مسألة الأحذية المبعثرة أمام عتبات المساجد مسألة سفاسف لا يخوض فيها خائض، فهي أبسط البسائط، لكن في حقيقة الأمر المسألة ليست بتلك البساطة المتخيّلة، بل إنها مسألة تكشف لنا حقائق كبرى وتزيّل اللثام عن نقاط محوريّة أساسيّة ذات امتداد قرآني. ومن الحقائق الكبرى والنقاط المحورية الأساسية التي تكشف عنها مسألة بعثرة الأحذية هي: الجمال أين نحن من الجمال والعكس؟ فالجمال ركن أصيل من الأركان القرآنية وتزيين بيوت الله ونظافتها والاعتناء بها ماهو إلى درب من دروب الجمال التعبدي، الجمال الذي منبعه خالصٌ وقصدهٌ خالصٌ فهو من عمق عمق القلب وللربِّ بلا شريكٍ.
الإسلام حاوي الجمال لاريب في ذلك، لكن المناظير المختلفة الناظرة للإسلام من زوايا متباينة متباعدة متناكفة هي من أساءت للإسلام، ولفهم الإسلام، والإسلام منها براء لاريب في ذلك |
الجمال في القرآن والسنة خطاب ومعاني ومادة فهو خطاب؛ لأن القرآن جميل في حد ذاته جميل في آياته وسوره، وفي ألفاظه ولغته ومعانيه وغاياته ومراده وأمره ونهيِّه، وفي طريقة تنزيله وفي من أوصله وفي من حمله، حث القرآن على الجمال وتكلّم عن الجمال بشقيّه المادي والمعنوي؛ حيث يقول تعالى في سورة النحل: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) النحل الآية6 ويقول تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) سورة التين الآية، ويقول تعالى: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ) ق الآية6 (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) الحجر 85.
كل هذه الآيات تخاطبنا بلغة جماليّة، تحاورنا بجمال وتشير لنا لما هو جميل وكيف يكون الجميل؟ لكم يا معشر الخلق جمال مركب في الأنعام حين تسرحون؛ حين تتحركون وتنتقلون من مكان لآخر لأغراض وغايات متباينة فهي المَركب لكم، ولكم فيها جمال حين تريحون حين النزول حين السكن لتتمتع بها أبصاركم وعقولكم وقلوبكم. يا أيها الخليفة خليفة الله في أرضه خلقك الله فأحسن خلقك، فإذا هممّت بعمل فأحسنه وجمله؛ لأن من غايات وجودك خلافته سبحانه وتعالى في كونه لذلك أنت مستخلف في جمالٍ فلا تقدّم إلا جمالاً فأنت عنه مُساءَل. الجمال المعنوي له انعكاس واقعي لا محال، وإلا لكان من باب الشعارات والمعاني الجامدة لاغير، لذلك من تشبّعت روحه جمالًا لا يمكنه أن يُشيّد سداً بين معاني الجمال التي تحملها روحه وواقعه الذي يعيشه، وما رثاثة الصورة المدخلية للمسجد إلا نوع من الانفصام فالصلاة جمال تبعث على الجمال ولغتها جمالا فكيف لفاعلها أن يفصل بينها وبين الجمال؟ إلا أن يكون كما قلنا مريض بالانفصام.
نعود لأحد الأسئلة التي طرحناها بدءً هل لهذه الصورة الغير حضارية الملاحظة أمام المساجد علاقة بفهم معين للإسلام؟ الإجابة للأسف: نعم، فالإسلام حاوي الجمال لاريب في ذلك، لكن المناظير المختلفة الناظرة للإسلام من زوايا متباينة متباعدة متناكفة هي من أساءت للإسلام، ولفهم الإسلام، والإسلام منها براء لاريب في ذلك، حيث بعض هذه الفئات والمناظير جعلت من الدمامة والسماجة والقبح دلالة دينية فأنت عندما تُطّل بهيئة رثة فأنت متدين، وعندما لا تعتني بشعرك: غسلاً، ولا مشطاً، ولا قصاً إلا خلال مرات متباعدة، فأنت متدين، وشكلك يوحي بذلك ويرمز للإسلام وفهمه الصحيح، أما عن تزيين بيوت الله فتلك طامة كبرى فهي من أودية البدعة والضلالة، ومنكرة ومردودة ليست من الإسلام، والإسلام منها بريء.
مما أسلفنا ذكراً يبدو أن وجود دواليب مرصوفة خالية، وبجانبها أحذية مبعثرة متناثرة توحي لِمَ هو ضد الحضارة؛ وليست بتلك البساطة التي قد يراه البعض، وأن وراءها مسبب ودافعٌ، ليس بالبريء من أغلب مانعيشه من ظواهر ومظاهر مرضية غير أخلاقية ولا حضارية. رؤية الإسلام للجمال واضحة جدا لا غبار يتخللها وحُثَّ عليه من خلال ركنيه الأساسيين؛ القرآن العظيم ،والأحاديث النبوية وحتى من خلال كون الخالق البديع الذي إذا تمعنت في مكون من مكوناته لايمكن لِمَ بين شفتيك إلا أن يقول: إن الله جميل يحب الجمال، وما الأحاديث الكثيرة في ذلك إلا تبياناً وترسيخاً للجمال وقيّمه في النفس والعقل البشري المسَلّم لله الواحد الأحد؛ حيث يقول الرسول في باب الجمال (إن الله جميل يحب الجمال)، ويقول أيضا: (من عمل عملا فاليتقنه) وكما في الحديث (من كان يؤمن بالله فليحسن إلى جاره)
لو أن تيار المزج الذي يمزج بين الإسلام والجمال ويرى أن الجمال ركن أصيل لا يتجزأ من الإسلام يسود؛ لتوجنا بحياة جمالية لتعاملنا مع الإسلام ذاته بجمال |
عملك تتقنه ليشعر من له انعكاس عليه أو من سيستلمه ممبعدك بمعنى الجمال؛ لأنك مستخلف في بيئة جمالية، وكونٌ جميل ولايمكنك إلا أن تمد وتقدم جميلاً، الإحسان ترجمة للجمال معنى من معاني الجمال فالإحسان إلى الجار بالكلمة الطيبة والتبسم ومد يد العون والسؤال والتعاون على البر والخير والإرشاد والرعاية جمال فأنت بهذا تبث الجمال وتعمل على خلقه حياً يسعى ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه) الإحسان يندرج تحت راية الجمال؛ إذاً حياتك كلها جمال تعبدي، الصلاة الصيام الصدقة البسمة والرحمة والمساعدة وإتقان العمل نشر العلم المحبة السلام، أنت تعيش في جمال وبجمال ومن أجل جمالٍ فكن جميلا يكن من حولك جميلا.
تنظر من حولك في ملكوت الخالق فلايسعك من فرط جماله وحسن تبديعه وتنسيقه؛ إلا أن تقول سبحان الذي خلق فأحسن فصوّر فابدع. قال تعالى: (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَّةٌ(١٢)فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ(13) وأَكْوابٌ مَوضُوعةٌ(14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ(15) وزَرَابيُّ مَبْثُوثةُ(16) اَفَلاَ ينظُرُون إلى الإبِلِ كيْفَ خُلِقَتْ(17) وإلى السَّماءِ كيفَ رُفِعَتْ(18) وإلى الْجِبَالِ كيفَ نُصِبتْ(19) وَإِلى اَلاَرضِ كيفَ سُطِّحَتْ(20))سورة الغاشية
إذا قرأت هذه الآيات ببصيرة قلبيّةٍ وتدبر قلبي ستشعر وتحس بجمال منقطع النظير بدءً بجمال مفردات، ومعاني القرآن الكريم إلى جمال بديع صنع الله الذي يتجلى في كونه البديع الفسيح، وبالتالي لن تنطق غير: سبحان الذي صوَّر فأحسن، إن الله جميل يحب الجمال، التدبر من ضمن الإتقان لذلك هو جمال وباعث على الجمال؛ لأن من يقرأ بتدبر على النقيض من غيره سيرى الجمال حتماً بقراءته التدبربة في كتابي الله: الكتاب المسطور، والكتاب المنظور. إذاً من مشاكلنا أننا نصبنا خيمة العداء للجمال، وجعلنا الإسلام لا صلة بيِّنة له بالجمال، وما الدواليب المرصوفة والأحذية المتناثرة إلا صدى وانعكاس لاحترابنا مع الجمال وكل ماهو حسن، مما أضحى إلى علاقتنا التعاملية الغير سوية مع واقعنا المعاش، وحتى مع أنفسنا ومع من حولنا ومع البيئة التي نعيش فيها أو الأنعام التي نتغذى منها ونترحل عليها.
لو أن تيار المزج الذي يمزج بين الإسلام والجمال ويرى أن الجمال ركن أصيل لا يتجزأ من الإسلام يسود؛ لتوجنا بحياة جمالية لتعاملنا مع الإسلام ذاته بجمال لمَا وجد بيننَّا إنسان الانفصام الذي يرى الإسلام في ضفة والجمال في أخرى لا يلتقيان أبدا، الذي لا علاقة له بالجمال إنما يرى القبح أساساً ومنه لن يقدّم إلا قبحاً ولن يؤثر عنه إلا قبيحاً، لو ساد هذا التيار لتحصلنا على إنسان الجمال الذي يرى جمال نفسه وكونه وخُلقه وجمال قرآنه وصلاته وشتى عباداته، وينثر جمالاً ويعتني بما حوله من أشياء، ولايبخل لإيجادها على أجمل وجه كما أنه بالبيئة معتني مجملٌ.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.