لعلهم جميعا مرروا بتلك المرحلة التي وقعوا فيها في غرام أنفسهم مثلكَ، كلهم مرروا بتلك المرحلة التي كان فيها المديحُ أمرا لذيذا للغاية، كلهم يفشلون في هذا الامتحان الأول مثلما فشلتَ أنتَ أيضا، وعليكَ الآن أن تعترفَ بفشلك، وعليكَ أن تحكي قصتك مع الصحوة من هذه الغفلة، عن فنجان الحقيقة المرة بعد هذا السكر اللذيذ الأول، الذي قئتَ على إثره كل افتتانكَ الداخلي بنفسك، وجلستَ بعده كالطفل المذنب على كرسي الخجل من الله، ومن نفسك، ومن الناس!
أنتَ الآن تدرك تماما قدر ذاتك، وتتمنى أن تكون ربعَ ما يقوله البعض عنك، وأنت تدرك أنك لو كنتَ سمعتَ عنكَ من غيركَ، لكنت أحببتَك جداً، وتمنيتَ التعرفَ عليك، واتخذتكَ مثلا أعلى، واستصغرتَ شأنك أمامك! وهذا هو في الحقيقة ما يرعبك، فرعبٌ حقيقي أن تُعامل على غير ما أنت عليه، كالعملاء المزدوجين ومنتحلي الشخصيات، لتسأل نفسكَ كل دقيقةٍ في قلق: "ماذا لو اكتُشف أمري؟"
تمر عليكَ أحياناً تلك اللحظات، التي تشعر فيها باللاجدوى من كل ما تكتبُ، فكل ذلك في النهاية محض كلمات في الهواء، وأنتَ تتوهمُ أنك بها تصنع فرقا، فهل تصنع فرقا بالفعل؟ |
من المؤسف أنكَ لا تَستطيع فعل الكثير لتَدفع عن نفسكَ تهم المثالية، تلك التي تبدو براقة للبعض، لكن بريقها يبدو في عينيكَ كبريق المقاصل المسنونة، فأين أنتَ من كل ذلك بالفعل؟ لستَ ملاكا ولستَ شيطانا، لستَ عبقريا ولستَ غبيا، لستَ علامة ولستَ جاهلا، لستَ رهيف الشعور ولستَ بليدا، لستَ رفيع الخلق ولستَ سيئا، أنتَ مزيجٌ من ذلك كله، أنت ذلك النسيج المشتبك من النور والعتمة. كل ما في الأمر أنكَ تستطيع إظهار النور فيك، ليعمي العيون عن ظلمتك، أنكَ تُحسن الاختباء خلف حساباتكَ الاجتماعية، وابتساماتكَ المتكلفة، وصوركَ المختارة بعناية، أنكَ تأخذ وقتكَ في تقديم أفضل ما عندك، وأن الكلام صنعتك!
ولكن الناس لا يعرفون، أنه قد تكتبُ عما تفتقده، قد تكتب عن الحب لأنك تتلفتُ حولك فلا ترى له أثرا، قد تُنَظِّرُ عن العلاقات الأسرية من واقع معاناتكَ فيها، قد تكتب عن الأمور الدينية لأنكَ غارق في تقصيرك، قد تكتبُ عن الأخلاق لأنكَ تُريدُ تهذيب نفسك، وأنتَ تكتب ما يمليه عليكَ ضميرك، أما الحياة فميدان آخر، لذا فإنكَ تُخطئ وتتعثر وقد تخون ما تكتبُ عنه.
وقد تكون لغتكَ بارعة تُعجب الناس، ولكنك تعرف أن للكتابة حالة خاصة تتملكُكَ، تشحذُ من أجلها كل كيانك، وفيها متسع من الوقت للعقل والنفس والشعور، تستطيعُ من خلاله أن تزن أعقد الأفكار، وأن تنتقي أفضل العبارات، وأن تضبط أكثر مشاعركَ عنفا، حتى إذا ما انتهيتَ عدتَ إلى حياتكَ الواقعية، بانفعالاتها وطيشها وحماقاتها، وقد تكون فيها شخصا مملا، خجولا، متلعثما في الكلام، غائب البديهة عندما تحتدم النقاشات. وفيضانُ المشاعر في كتاباتكَ لا يعني أنكَ رقيقُ القلب إلى هذا الحد، لكنكَ تتفاعلُ مع الحرف، ويجرفكَ الخيال، وتُلاحق في اللغةِ المعاني المستحيلة.
أما رزانتكَ ووقارك، فهي ليست إلا قوالبَ جُبرتَ على أن تلتزمها، ولكنكَ حين تنفردُ بنفسكَ أو بمن تأمنُ لهم، تظهرُ من شخصيتكَ جوانبُها العابثة، التي لا تسمح بظهورها أمام الغرباء. وأنتَ تُسأل كثيرا وتُستشار مراراً، ولكن الأسئلة كثيرة والأجوبة عزيزة، فأنتَ بالكاد تُغطي بما تعرفه عورة جهلك، وهو قد تغلبكَ الحيرةُ في كثير من أمور حياتك، فلا تدري لمن تلجأ ومن تسأل ومن تستشير.
وتمر عليكَ أحياناً تلك اللحظات، التي تشعر فيها باللاجدوى من كل ما تكتبُ، فكل ذلك في النهاية محض كلمات في الهواء، وأنتَ تتوهمُ أنك بها تصنع فرقا، فهل تصنع فرقا بالفعل؟ تتساءلُ وعيونكَ معلقة على الأسماء اللامعة لكتاب راقدين في القبور، صنعوا فروقا كبيرة، فهل ستكون يوما مثلهم؟ بل هل تكتبُ فعلا لتكون مثلهم؟ لأنْ تتعلقَ العيونُ باسمك وأنت راقدٌ في القبر؟ وهل سينفعكَ حينها ما يُقال عنك؟ أم لن ينفعكَ إلا إخلاصك فيما تكتب؟
وتعود رهبة الامتحان الأول من جديد، ويعود سؤال النية حاضرا مثل أستاذ عابس، ينتظر الجواب بمسطرة في يده، فتفتشُ في نواياكَ جيدا، تقلبُ جيوبها، وتُفرغ جعابها، وتجد نفسكَ في غرفة التحقيق تحت مصباح الشك المتأرجح. فهل نجحتَ فعلا في ذلك الامتحان الأول كما ادعيت ؟ أم أن الامتحان صار أصعب بكثير، بحيث تملَّككَ وهمُ النجاح فيه، دون أن تدرك أنك لا تزال حتى الآن جالسا إلى طاولته؟ وربما إلى نهاية حياتك!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.