يقولون أن رمضان شُرع لكي نشعر بجوع الفقراء، لكن أليس في الشعور بتخمة الشبع حكمة أكبر؟يعلمنا الشبع رمضان أربعة أمور:
إن رمضان هو تجسيد حقيقي لخيبة شهواتنا الكبيرة، تلك التي يسعِّرها الحرمان طوال النهار، فإذا بنا حين تحين لحظة الإفطار نجد أننا رغم عطشنا الكبير، غير قادرين على شرب أكثر من كأسين من السوائل من كل تلك الأصناف البادرة المصفوفة على الطاولة، ورغم جوعنا الكبير، غير قادرين على أكل أكثر مما تتسع له بطوننا من كل تلك الأطباق المتنوعة التي ظللنا طوال النهار نتعذب بشم روائحها؟
فالجائع يشبع بقطعة خبز كما يشبع أيضا بطبق من لحم الخروف، والعطشان يرتوي بكأس ماء من الصنبور، كما يرتوي بعصير المانجو الطبيعي الطازج، واللذة تنطفئ مع زوجة عادية الجمال، تماما كما تنطفئ مع ملكة جمال العالم، ينطبق الأمر على كل الشهوات الأخرى، على موقع البيت الذي تقطنه، على درجة فخامة الفرش، على سعر الثياب، على نوع السيارة! نحن نشتهي دوما ما يفوق احتياجنا، ونزهد بما في أيدينا، ونكفر بالنعم، في حين أننا قادرون دوما على الاكتفاء بالقليل، فما الداعي لأن نضيع حياتنا حسرات على أمور لو لم تتيسر لنا في الدنيا لما نقصنا في الحقيقة شيء؟
المتع في هذه الحياة متع منقوصة، براقة في بداياتها، باهتة بعد برهة من امتلاكها، لذا يظل العطش للتمتع مستعرا لا ينطفئ، لا شيء يرويه، لأن كل ما هو دنيوي من المتع واللذات، له ما يقهره ويفنيه، من الوقتِ والتعودِ |
فنحن لن نستطيع أن نطيل زمن استمتاعنا أكثر من تلك البرهة الزمنية الصغيرة التي تقع بين اللقمة الأولى ولحظة الشبع، والرشفة الأولى من الكأس ولحظة الارتواء، وبداية الرعشة الجسدية ولحظة انطفائها السريع، رغم أننا أمضينا النهار الطويل ننتظر هذه اللحظات بفارغ الصبر. وكذلك زمن الحسرات المديد على أي لذة غير ممكنة، على السيارة المشتهاة، والمرأة المشتهاة، والوظيفة المشتهاة، والرحلة السياحية المشتهاة… إنه أطول بكثير من زمن المتعة التي سنعيشها عندما ستتحقق هذه الأمنيات! إنها باختصار تجارة خاسرة، نبذل فيها الكثير من أعمارنا من أجل هنيهات من التلذذ!
إن كل ما نشتهيه بشدة ونذيب صدورنا حسرة عليه، يترك في واقع الحال خيبة أمل كبيرة عندما نملكه، لا ينطبق الأمر على الارتواء بعد عطش، وعلى الشبع بعد جوع، وعلى اللذة الجنسية بعد حرمان، بل ينطبق على كل ما نشتهيه من الملذات الدنيوية مهما كانت. إن تخيلنا للمتعة وتلهفنا عليها هو أكبر من حقيقتها المليئة في الواقع بالنواقص والمنغصات.
كما أننا حين تحضر هذه المتع، لن نستطيع بأن نشعر بأكثر مما تسمح به أجسادنا، تلك التي صُممت للشعور بدرجة محدودة من اللذة في كل شيء، في الأكل، في الشرب، في الجنس، في الحب، في الامتلاك، هناك دوما عتبة من الشعور لا نستطيع تخطيها، يتوقف عندها الشعور بالمتعة دون أن يكون هذا الشعور قد روى تطلعاتنا وتوقعاتنا واشتهاءنا اللامحدود، لذا فإن بعد كل اشتهاء خيبة أكبر منه بأضعاف، وشعور بالفراغ، وبالحاجة إلى الجديد، وهكذا فإن الإنسان لا يكتفي من شيء في هذه الحياة، وفي سبيل الوصول لمتع جديدة فإنه يبطش ويعتدي ويسرق ويتجبر، دون أن يشعر أبدا بالرضا والارتواء، لأنه باختصار يلاحق سرابا! "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور".
إن كل المتع في هذه الحياة متع منقوصة، براقة في بداياتها، باهتة بعد برهة من امتلاكها، لذا يظل العطش للتمتع مستعرا لا ينطفئ، لا شيء يرويه، لأن كل ما هو دنيوي من المتع واللذات، له ما يقهره ويفنيه، من الوقتِ والتعودِ ومحدودية قدرة الجسد على الاستمتاع، لذا فإن العاقل هو من يدرك أنه لا مغزى من الطمع في هذه الحياة، فكل سعي إلى امتلاك المزيد، سيزيدنا شعورا بفراغ القلب واليد والعين، وإن الظالم لنفسه هو من يفني عمره ساعيا إلى إرواء عطشه الجسدي والنفسي، وإنني لا أجد دليلا على وجود الفردوس، الذي تتبدل فيه الأجساد ويمحي فيه مفهوم الزمن، أعظمَ مِنْ عَجْزِ كل ما تحتويه هذه الدنيا من ملذات على إطفاء هذا العطش!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.