نحن لا نحب إمضاء الليالي وحدنا، فالليالي التي لا يشاركنا عتمتها أحد تصبح طويلة جدا، نحن لا نريد لقلوبنا أن تظل تخفق على ذلك الرتم الممل، بل نريد لها أن تخفق بشكل جنوني وبلا هوادة، نحن لم نعد نقبل بالوحدة أمراً واقعا، بل صرنا نملك الخيار دوما لكي نملأ وحدتنا هذه بشريك يسامرنا.
وعلى الرغم من أن الزواج لم يعد أمرا سهلا في ظل ظروفنا الحالية، إلا أن هناك بدائل سهلة دوما لكل هذا الفراغ الذي يتركه غياب شريك حقيقي في حياتنا، تتمثلُ بالعلاقات عبر الانترنت، بدءا بالدردشة بأسماء مستعارة، مرورا بمحادثات فيس بوك مع غرباء لم نلتقيهم، وانتهاء بالاكتفاء بالإنترنت طريقةً للتواصل في علاقة عاطفية جدية. قد يبدو الأمر للوهلة الأولى بمثابة تسهيل للتواصل بين الجنسين في مجتمع يغلق عليهما كل الأبواب غير باب الزواج، لكن هذه الطريقة في التواصل ليست في الحقيقة إلا ثقبا أسودا للروح والقلب والنفس، لأنها تمتص من أعمارنا وطاقاتنا الفكرية والعاطفية والروحية والجنسية الشيء الكثير دون أن تثمر غالبا في النهاية ثمارا حقيقية.
فنحن نستهلك الكثير من أوقاتنا في إخبار شريك غير موجود عن تفاصيل حياتنا اليومية، نحن نقحمه في كل صغيرة وكبيرة، مثلما نجد أنفسنا مقحَمِين في كل صغيرة وكبيرة في حياته، ولكن، ورغم كل هذا الوقت المستهلك في هذه المحادثات فإنه في الحقيقة لن يكون موجودا ليشاركنا حفلة عيد الميلاد، أو فرحتنا بالتخرج من الجامعة، ولن يكون موجودا ليهدئ من روعنا بعد مشكلة مع زميل العمل، أو لنبكي على كتفه أثناء نوبة كآبة. إنه هنا ولكنه ليس هنا أيضا، وهذا الوجود الشبحي له في حياتنا سيجعلنا دوما نعيش معه مشاعرنا بشكل منقوص، وغير مكتمل، في حين أننا نحتاج أن نعيشها بشكل كامل وحقيقي. إننا نعيش في الحقيقة مع أشباح، يظلون يؤكدون وجودهم في حياتنا من خلال رنات واتس أب أو مسنجر أو اتصالات سكايب! وهذا الوجود الشبحي يتحول إلى جدار مصمت يمنعنا من استقبال أي دعوة حقيقية للحب في عالمنا الحقيقي، لأننا نشعر مع هؤلاء الشركاء غير الموجودين بامتلاء عاطفي كاذب، بوهمِ امتلاءٍ لن يكون يوما امتلاءً حقيقيا!
يستسهل الشباب الخوض في علاقات عاطفية وجنسية افتراضية، أولا لصعوبة تفريغ هذه الطاقات في القنوات الصحيحة، وثانيا لكونها خيارا متاحا دوما في يد كل إنسان مما يصعِّب مقاومة النفس لها |
إن القدر الكبير من المشاعر الذي نصبه في علاقات كهذه سيكون بمثابة طاقة عاطفية مهدورة، فهذه المشاعر مهما كانت صادقة، سنكون بحاجة لبذل الكثير من الجهد لإيصالها للطرف الآخر بحرارتها الحقيقية، وهذا يعني وقتا أطول في التواصل، مبالغات كلامية، تأكيدات متكررة، ورموزا تعبيرية ومنشورات فيس بوك وروابط أغاني يوتيوب، وربما أيضا كسرا للمزيد من خطوطنا الأخلاقية الحمراء، في حين أن نظرة صادقة أو ابتسامة ودودة أو همسة لطيفة كانت لتغني عن ذلك كله. وبالمقابل نحن نحتاج من الطرف الآخر تأكيدات مستمرة، واهتماما مضاعفا، ووقتا أطول حتى نحصل على الجرعة العاطفية التي نحتاجها، الأمر الذي سيحول العلاقة فيما بعد إلى حالة من الاستنزاف العاطفي والزمني المديد للطرفين.
وإن هذه المشاعر المتدفقة والعنيفة، والتي لا يصل للطرف الآخر منها إلا بقية باقية صغيرة، لن تستطيع أن تبني علاقة متينة قادرة على الصمود والاستمرار وتجاوز المصاعب، بل سيكون هذا الصرح الكبير من الحب أشبه بقصر من الرغوة، أو ببرج من ورق اللعب، سرعان من سينهار عند أول هزة، وستذهب معه هباء كل تلك المشاعر الجياشة التي قمنا بضخها أثناء تلك المحادثات الطويلة. وفي الوقت الذي سنحتاج فيه إلى طاقتنا العاطفية الكاملة في علاقة الزواج الحقيقية، سنكون قد أصبحنا منهكين، بمشاعر مستهلكة وقلوب مستعملة ورصيد فارغ من الصبر والانفعال، وتقريبا بلا أي خبرة إنسانية!
لقد تحدثنا عن خطورة العلاقات العاطفية الافتراضية على الشاب والشابة، رغم أنها لا تتطلب في حياة الإنسان الواقعية سوى حضورا جسديا محدودا للطرف الآخر، كلقاء على فنجان قهوة أو ابتسامة أو همسة لطيفة، فما بالكم بخطورة معايشة العلاقة الجنسية بشكل افتراضي؟ تلك التي تتطلب في الواقع حضورا جسديا كاملا للطرف الآخر، وتفاعلا شديد القرب والحميمية، فهل تتخيلون كم سيكون تعويض ذلك عبر علاقة افتراضية صعبا جدا ومكلفا؟ فسواء عبر محادثات الشات الجنسية بين مجهولي الهوية، أو خلال حديث جنسي أفضت إليه علاقة بريئة بين شخصين حقيقيين، فإن الخيال الجامح هو اللاعب الأقوى في هذه العلاقات، يحرضه ويثيره التفاعلُ الكلامي بين الطرفين، الذين يكتشفان شيئا فشيئا حاجتهما إلى رفع سقف الجرعة الكلامية والتخيلية إلى درجات عالية حتى يحافظا على ذات القدر من الإثارة.
إن ميولا وأذواقا متنوعة ضمن الحدود الطبيعية، تتحول مع هذا الإفراط في التعبير اللفظي، ومع هذا الجموح في الخيال، إلى ميول غير سوية ورغبات شاذة، الأمرُ الذي يخلق لدى الشاب أو الشابة صورة خاطئة وغير مطابقة للحقيقة عن نفسيهما وأذواقهما الجنسية وعن الجنس نفسه، على الرغم من أن حالة التطرف هذه أثناء التخيل والتفاعل اللفظي هي حالة متوقعة خلال أي تواصل جنسي غير مكتمل، حيث يجد الطرفان أنهما مجبران عليها من أجل تحفيز الانفعال الذي يذوي بفعل التكرار. هذا التطرف في الخيال هو مجرد آلية طبيعية يلجأ لها الذهن لمواجهة استعصاء الإثارة، لكنه لا يعبر بأي حال من الأحوال عن ذوق فعلي للمرء، بل إن هذه الخيالات الجامحة سرعان ما ستُنسى وتندثر حين الممارسة الطبيعية في الزواج، لأن جرعة صغيرة جدا من الإثارة الحقيقية على أرض الواقع ستكون كافية لتحقيق الإشباع المنشود.
يستسهل الشباب الخوض في علاقات عاطفية وجنسية افتراضية، أولا لصعوبة تفريغ هذه الطاقات في القنوات الصحيحة، وثانيا لكونها خيارا متاحا دوما في يد كل إنسان مما يصعِّب مقاومة النفس لها، وثالثا لظنهم أنها أصغر إثما من الخوض في علاقة حقيقية. وتكمن الحلول في تسهيل الزواج للشباب وخفض سنه قدر الإمكان، وفي وعي الشاب والشابة بخطورة هذه العلاقة على استقرارهما النفسي والعاطفي ومستقبل علاقاتهما الحقيقية، وفي فهمهما بأن هذا النوع من العلاقات وإن بدا أقل "إثما" من خوض تواصل على أرض الواقع مع الجنس الأخر، إلا أن ضريبته اللاحقة أكبر بكثير، ففي التواصل الحقيقي ستكون كل الحواجز الاجتماعية موجودة وعالية وحاضرة بين الطرفين، وأثناء كل حركة وسكنة لهما، ولكنها ستسقط كلها في محادثات الليل التي تُخاض في عتمة غرف النوم وفوق الأسرة الدافئة وفي غفلة عن عيون الجميع، لذا يبدو ضبط التواصل الحقيقي أسهل، وضريبته النفسية والعاطفية أقل، واحتمال إفضائه للزواج أكبر.
نعم، تبدو الليالي التي لا يشاركنا فيها أحد طويلة بالفعل، وتصبح الحياة مملة وباردة حينما لا يكون معنا شخص نعيش معه دوما كل تفاصيلها، لذا نستسهل خوض علاقات افتراضية مع الجنس الآخر، ليتحول هذا السلوك إلى نمط حياة، لا نتحمل فيها الوحدة أبدا، ونحتاج فيها دوما إلى شريك، فننتقل من علاقة إلى أخرى، ونقع في الإدمان. لكن علينا ألا نكون أعداء لأنفسنا، علينا أن نحب ذواتنا وأن نؤمن دوما أنها تستحق أفضل من هذا، فلا بأس من إمضاء فترة من حياتنا بدون شريك ريثما نلتقيه على أرض الواقع، فهذا أفضل بكثير من الحياة مع نصف شريك. نحن نستحق حبا حقيقيا حيّا، نحن نستحق أن يُنظر في عيوننا بحرارة، ونستحق أن نسترق بعض اللحظات لنتبادل بضع كلمات لطيفة، ونستحق أن نخطط للزواج ونحن نتبادل الابتسامات، ونستحق أن يكون لنا خيالاتنا الخاصة التي ننتظر أن نعيشها معا بكل تفاصيلها، دون أن نصب مشاعرنا في بلاعات المحادثات العاطفية والجنسية المؤذية لأرواحنا. نحن نستحق شريكا حقيقيا لا شبحا، نحن نستحق علاقة حقيقية لا نصف علاقة، نحن نستحق أن نعيش الحب كما هو بكل حرارته لا أن نمضي أعمارنا ونحن نتظاهر بأننا نعيشه!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.