كلمة إلى أحباب الله.. خاصة معشر الكتَّاب، الكرام أصحاب الأقلام؛ علّمكمُ اللهُ فنّ الكتابة، ومكّنكُم من جمال السرد، وملّكَكُمْ حلاوة الخطاب والتميّز في الرواية، وجعلكم فصحاء وفقهاء وأتقياء، وألهمكم الحكمة فيما تكتبون. ليس أكثر دناءةَ نفس من كاتب يسرق كلام غيره إلّا شخص يسرق ويتباهى بِسرقته! ولا أعجب ممّن يستحل خطف مجهود غيره وينسبه لنفسه ثم يستقبل كل مدح وكل مباركة أو يحصل على أجر مادي، بل ويستقبل كل نقد دون أي خجل، وكأنه هو الذي أنشأ هذه الموضوعات وتَعب في تأليفها!
وإن نعجب فعجب من هؤلاء في اختلاسهِمْ لكتابات وينشرونها بكل ثقة، لا ينشغلون إلّا بِلفت الأنظار إليهم، ولا يهمّهم إلّا الشهرة ولو على حساب موهبة غيرهم! والأعجب أنهم يسرقون نصوصًا تُلجم السرقة ألسنتهم عن شرح ما سرقوه، فلا يجترِؤون على مواجهة نقد ولا تبيين فكرة أو حتىٰ توضيح فقرة. تحسبون الأمر هينًا وقد كان عظيمًا عند مَن سبقونا، إذ كانتِ الخشيةُ دائمًا في قلوبهم مع كلّ أمرٍ، وهذه طبيعة مَن يُعامل الله في كل أموره.
يعتبر المبدأ نفس المبدأ، ومن يقبل أنْ يسرق عمل غيره، يقبل أن يسرق ما هو أكبر، وسرقة التأليف هنا إنما تدل على ضعف الإيمان وعدم الإخلاص في القول والعمل |
قال القرطبي رحمه الله: "في مقدمة تفسيره: مِن بركة العلم أنْ يُضاف القولُ إلى قائله". لقد أضمرتُ في نفسي أمرًا ما كان ينبغي لي أنْ أُخفيه، رغم أنني لا أطيقُ السكوت عنه وأحسبكم لا تطيقونه أيضًا، ولكنني خشيت أن أكون سببًا في كآبة أحدهم إذا فضحت أمره وبيّنت خطيئته، وخشيتُ كذلك أنْ أكون سببًا في تثبيطه عن همة ما إذا أظهرت للنّاسِ فِعلته، فَامْتنعتُ عن كشف أمره، وبسبب هذا الإضمار ليس مِن حقي الآن أنْ أُبدي بِالأمر لا لأنني قد سترتُ عليه فيما مضىٰ! ولكن لأنني وجدتُ أنّ فضيحته آنذاك لن تضر ولن تنفع في ظل مصائب الأمة الأكبر وهمومها الأعظم؛ بَيْدَ أنني راجعت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم -في شأن السرقة عمومًا- وكيف أنه -بأبي هو وبأمي- لم يخشَ على حزن وكآبة أقرب الناس إليه مِن محاسبته وفضح أمره على حساب الحق والعدل الذي شرّعه الله إذا وَقَعَ هذا القريب في إثمِ السرقة..
ونصّ الحديث كما تعرفونه، عن عائشة رضي الله عنها: أنّ قريشًا أهمهم شأن المخزومية التي سَرَقَت، فقالوا: مَن يُكلّم فيها رسول الله صلىٰ الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومَن يَجترئ عليه إلّا أسامة بن زيد حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم! فكلمه أسامة، فقال: أتشفع في حدٍّ مِن حدودِ الله؟ ثم قَامَ فاختطب، فقال: إنما أهلك الذين مِن قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَقَ فيهم الشريف تركوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي بيده لو أنّ فاطمة بنت محمد سَرَقَت لَقطعت يدها. رواه ومسلم.
والحديث غير أنه يَنهي عنِ السرقة ويحثنا على تطبيق الحدود كما شرّعها الله ولو كان على أقرب الناس إلينا، ولكنه أيضًا يعلمنا امتناعَ الشفاعة في الحد، وعدم الستر في حقوق الله، وعلىٰ أنّ أمر سرقة النصوص والتأليف يختلف عنِ السرقة المذكورة في الحديث، ولكن أولًا وآخرًا يعتبر المبدأ نفس المبدأ، ومن يقبل أنْ يسرق عمل غيره، يقبل أن يسرق ما هو أكبر، وسرقة التأليف هنا إنما تدل على ضعف الإيمان وعدم الإخلاص في القول والعمل، عافانا الله وإياكم، وكيف تكون النية خالصة لوجه الله وصاحبها كل همه زيادة عدد المتابعين؟!
"وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ".. قال ابن جريج: الكتاب يعني الكتابة والخط. فالكتابة هبة إذن، عطيةٌ مِن الله يختصها مِن عباده من يشاء، فضّل اللهُ بالعلم عبادًا، واختار لهم معسولَ الكلام وقَبوله عند الناس، ورزقهم مزيةً مِنَ المزايا يبتغون بها وجه الله، أما أولئك الذين يسرقون جهد غيرهم، فلا يبتغون إلّا شهرة ومدحٍ، سَيطر عليهم حبّ الثناء فجعلهم يفعلون أي شيء لإشباع شهوتهم وإرضاء نفوسهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول الحبيب المعلم أ. حمزة أبو زهرة في هذا الشأن: "واللهِ يا أحبة الهدى والرضا -وأرجو ربي صدق ما أقول- لا يهمُّ نفسي هذا الأمر كثيرًا، لكني أكره -بكراهية الله ورسوله- فعله لصاحبه؛ فأما الله مولانا -علا وتعالى- فقال في طائفةٍ ملومةٍ مذمومةٍ: "وَّيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا"، وأما محمدٌ الرسول -صلى الله عليه وعلىٰ أبويه إبراهيم وإسماعيل- فقال: "المتشبع بما لم يُعْطَ كلابس ثوبي زورٍ". ربنا افتح لِمَن يأتي -مِن إخواننا- هذا؛ ما ببركاته يستغنون عن ذاك؛ وزيِّنّا بأبهىٰ الشمائل أجمعين.
أصدر مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت سنة 1405هـ. بشأن الحقوق المعنوية، كالتأليف ونحوه، فقال في نص قراره: أولًا: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاخْتراع أوِ الابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها، أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها، وهذه الحقوق يعتد بها شرعًا، فلا يجوز الاعتداء عليها.
"ربِّ اشْرَح لي صَدري ويَسِّر لي أمْري واحْلُل عُقدةً مِّن لساني يَفقَهُوا قَولي".. اتقوا الله في كل كبيرةٍ وصغيرة، وتعلّموا أمر دينكم، خوضوا غمار الكتب وتفقهوا فنون الكتابة ومهارة السرد، حتى لا يغْويكمُ الشيطان لمثل هذه الأفعال الشنيعة، ولو كلّفكم التعليم سنوات كثيرة، خير لكم مِن سرقة جهد غيركم، وَ لَذمٌّ أو توبيخٌ تتلقونه علىٰ فداحة وبساطة حرفٍ تكتبه أيديكم أهون بل وأحبّ مِن مدحٍ زائف ترضاه أنفسكم؛ فإذا حذقتمُ الكتابة وتعلمتم أصولها وفضّلكمُ اللهُ بموهبتها فاكْتبوا ما شاء الله لكم أنْ تكتبوه، ولْتتقوا اللهَ فيما تخطوه يُمناكم، ولا يَأْبَ كاتبٌ أنْ يكتبَ كما علّمَهُ اللهُ. واتّقُوا اللهَ ويُعلّمُكُمُ اللهُ، واللهُ بِكلِّ شيءٍ علِيم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.