عقدت قبل أيام حقلة نقاشية هامة بعنوان "الثورات العربية بعد مرور 8 سنوات والدروس المستفادة لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط" نظمها مركز التقدم الأمريكي في واشنطن، وأعتقد أن تلك الحلقة النقاشية تعتبر من أهم ما يقيم تلك الفترة ويؤرخ ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة ذلك إن لم تكن أهمها على الإطلاق، وسبب تلك الأهمية لا ينبع فقط من التصريحات التي وردت في تلك الحلقة النقاشية بل من المشاركين في تلك الحلقة بأشخاصهم وما كان يشغله هؤلاء المتحدثين من مناصب في تلك الفترة. لذلك فتحتاج منا إلى كثير من التأمل والدراسة بل والتحليل وهو ما سنحاول إبرازه في السطور القادمة.
الحضور هم جوردن براي سفير الولايات المتحدة في تونس في الفترة التي بدأت فيها أحداث ثورات الربيع العربي والتي كانت شرارة بدايتها من تونس، وآن باترسون سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية في مصر في الفترة من يونيو 2011 وحتى أغسطس 2013 م – وهي فترة قصيرة لعمل سفير أمريكي في مصر – وثالث الحضور ولا يقل أهمية عن سابقيه هو منسق وزارة الخارجية الأمريكية بشأن التحول الديمقراطي في ذات الفترة. وهو أقرب ما يكون لتقييم داخلى لأداء السياسات الأمريكية بدون النظر لموقف الآخر – وأقصد بالأخر هنا ايا من الفاعلين في الشرق الأوسط – خاصة في ظل وجود ذات المسببات التي أدت إندلاع الثورات العربية حتى الان.
وليسمح لى القارئ الكريم بالتركيز على تصريحات السفيرة آن باترسون وتحديداً حول الوضع في مصر ذلك أنها البلد الأكبر والمحوري في الشرق الأوسط وذات العدد السكاني الأكبر من جهة الثانية، ومن جهة ثالثة فهي البلد التي لا زالت على صفيح ساخن أكثر من غيرها بالنسبة لدول الربيع العربي حتى الآن ورغم ما يبدوا عليه الوضع حالياً من استتباب الأمور للجنرال السيسي إلا أن البنية التحتية للمجتمع المصري ومكوناته بل ومؤسساته لم تستقر وتأخذ وضع الثبات على النحو الذي كانت عليه أيام مبارك، وهو ما يعمل السيسي مجتهداً للسيطرة عليه منذ 2013 وحتى الآن .
واخيراً ما يجعلنا نركز على مصر أكثر هو ما ذكره جوردن غراي في تقييمه لموقف الادارة الأمريكية في تلك الفترة بأن الادارة الأمريكية لم يكن لها دخل في اندلاع الثورة التونسية والتي كانت شعبية، ولكن بالنسبة لمصر ولأهميتها الكبيرة فقد أولتها "الإدارة اهتماما خاصاً" ذكرت باترسون عدة مرتكزات للساسة الأمريكية في مصر تمثلت في:
– ثبات العلاقة بين مصر واسرائيل – برغم من مرور العلاقة بين البلدين ببعض التباينات الا ان العلاقة بين البلدين توصف بأنها ثابتة
– الاهتمام بدور المؤسسة العسكرية ودورها في حكم مصر
– دور الشعب والذي تمثل في المشاركة الشعبية الكبيرة من المصريين في اول استحقاق انتخابي والتي وصلت لما يزيد عن 70%، وما يتمتع به الاسلاميين من قوة تصويتية في أي انتخابات خاصة الاخوان المسلمين، وكانت المفاجأة في الصعود السلفي.
ولما كانت تلك الحلقة النقاشية هدفها هو تقييم الدور الامريكي في التعامل مع دول الربيع العربي – تحديداً مصر – خلال الفترة المذكورة، فقد ارتكزت تصريحات المشاركين على ملاحظات الحضور على السياسة الأمريكية في تلك الفترة والتي نجملها في الآتي:
– اعتمدت الولايات المتحدة سياسة الترهيب "العصا"، دون سياسة الترغيب "الجزرة" والتي كان يمكن اتاحة مجال أوسع لها خاصة في مجالات السوق المشتركة والمزايا الاقتصادية، وذكرت آن باترسون أن الادارة الامريكية قد " رأت في الرئيس مرسي شخص لم يكن يعرف ما يفعل ووجدته الادارة الأمريكية غير مؤهل للحكم" ليس لشخصه فقط بل أيضا بسبب المستشاريين غير المؤهلين المحيطين به والذين وصفتهم بالانعزال، وأنه ربما كان يتعين التعامل معها بشكل أفضل مما كان عليه الحال
– مشاركة عدد من الجهات والأجهزة المخابرات الأمريكية المعلومات عن الوضع في مصر مما أتحاح كماً كبيراً من المعلومات أتاح لهم قدرة على التحكم في الأوضاع على الأرض.
– رغم وجود مصادر تمويلية كبيرة في الادارة الامريكية، الا انه لم تتوافر مساعدات مالية وإقتصادية لمصر تكفي لسد احتياجاتها التي بالمليارات، فضلاً عن الشروع في تقديم المساعدة والدعم لتلك الدول خاصة المنح التعليمية للشباب ومن بينها مصر، والتي توقفت بعد الانقلاب العسكري والتي دعمها الرئيس في تلك الفترة.
– رغم أهمية الدور الذي يقوم به الجيش في الحياة السياسية في مصر الا أنه ليس مؤهلاً للتعامل مع الإرهابيين، وهو ما ظهر في عجزه عن التعامل مع 1000 إرهابي في سيناء.
– وجود ثغرات في السيطرة على الأوضاع في مصر، وظهرت في الدور الذي لعبته الدول الخليجية في الاطاحة بالرئيس مرسي، وكذا عدم فهم دور السلفيين في الانقلاب.
– غض الولايات المتحدة الطرف عن إنتهاكات حقوق الانسان الممنهجة في مصر، وفي ذات الوقت حاولت الإدارة الأمريكية تدعيم منظمات حقوق الإنسان في مصر في تلك الفترة إلا أن المؤسسة العسكرية لم تقبل وجود دور لتلك المنظمات في ظل سيطرتها على الأوضاع في مصر من جهه وبحسب تعبير السفيرة باترسون فان "العاملين في مجال حقوق الإنسان كانوا لا يعملون في الواقع ويجلسون في برج عاجي “.
غير أن ما ورد في تصريحات الحضور قد القى بدلالات كثيرة على أمور لم يتم التحدث عنها تفصيلاً من الحضور، بل إن هناك أسئلة نتجت عن ماورد بتصريحات الحضور قد يحتاج التقييم إلى التفصيل فيها ومن ذلك:
1- لم يتطرق تقييم السياسة الأمريكية ولا السفيرة آن باترسون إلى خارطة المصالح الأمريكية في ضوء الوضع الأقليمي الذي كان في طور التشكل في الشرق الأوسط بعد نجاح الرئيس مرسي، وأثر التقارب التركي المصري الذي بدأ يتكون في ظل عدم رضا الإدارة الأمريكية من السياسة المستقلة للرئيس أردوغان وخشيتها من إعادة رسم السياسة المصرية في ذات الاتجاه إذا استقرت الأوضاع للرئيس المنتخب وبذلك تخرج مصر من العباءة الأمريكية.
أيضاً الخوف من محاولات إيران التقارب من مصر لإحداث ثغرة في محاولات أمريكا فرض العزله عليها فضلاً عن خوف الإدارة الأمريكية من موقف السياسة المصرية الوليدة السلبي على ملف الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، وامكانية تعديل خارطة القوى الفلسطينية من خلال منظمة التحرير الفلسطينية ومن ثم تنامي دور المقاومة الإسلامية في فلسطين على حساب الدور الفتحاوي الذي يلعبه محمود عباس.
مما لا شك أن كل هذه الخارطة كان لها دورها في اتخاذ قرار امريكي على مستوى عالي في الادارة الأمريكية بالانقلاب على الرئيس المنتخب ديمقراطيا بعد الثورة المصرية.
2- أن تأكيد السفيرة ان باترسون على الدور المحوري للجيش المصري في السياسة الأمريكية يلقى بمزيد من الضوء على دور الإدارة الأمريكية في الموافقة على قيام الجيش بانقلابة الاعسكري ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي، ويؤيد ذلك ما جاء بتصريحات كلاً من ان باترسون فيما يخص السيسي وعدم القدرة على تغييره إلا من خلال الجيش ذاته والذي انقلب على الرئيس مرسي، والتي قد افهم تلك الصياغة باعتبارها تفاخر من ان باترسون بسيطرتهم على الجيش وقدرتهم على تحريكه للقيام بأي دور مطلوب على الصعيد السياسي في مصر. كما يؤيد ذلك أيضاً ما جاء على لسان الضيف الثالث والذي كان يشغل منصب منسق وزارة الخارجية أنه كان هناك خلاف داخل الإدارة الامريكية بشأن وصف ما حدث في مصر وهل هو انقلاب أم لا، فهو في حقيقته انقلاب عسكري، وتوجب القوانين الأمريكية وقف المساعادات العسكرية خاصة حال حدوث انقلابات، لذا كان بعض الاشخاص في الادارة يصفونه بانه انقلاب بينما كانت قيادات أعلى في الإدارة لا توصفه بذلك رغبة في استمرار التعاون مع العسكريين القائمين عليه في مصر والشراكة الاستراتيجية والعلاقات مع إسرائيل و…….. الخ لذا تم تخفيض المساعدات. نتج عن ذلك أن قررت الادارة الامريكية عدم التصدي للانقلاب "نظراً لإعتبارات إستراتيجية". لذا فاعتقد ان تصريحات ضيف الثالث كانت أكثر وضوحاً من تصريحات السفيرة ان باترسون فيما يخص حقيقة دعم الانقلاب العسكري في مصر فضلاً عن إعطاءه الضوء الأخضر.
3- الحاجة إلى تحديد طبيعة "القيم الأمريكية" التي تبشر بها الولايات المتحدة والتي توقع أن المقصود منها هي قيم الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة واحترام نتيجة الانتخابات، واحترام حقوق الإنسان وغيرها من القيم التي خطها الأباء المؤسسون في الدستور الأمريكي، غير أن ممارسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة لا ينتج عنها في المنطقة إلا دكتاتوريات عسكرية، وإهدار لحقوق الإنسان، وفساد مالي ضخم في دول لديها ثروات طبيعية وبشرية وإحتياطيات كبيرة من المواد الخام؟!!
وعلى الإدارة الأمريكية أن تعييد تقييم تلك السياسات التي تمارسها في الشرق الأوسط في ظل وجود شعوب اثبتت انها قادرة على إحداث المفاجآت غير المتوقعة، والتي إن تكررت مفاجأة جديدة مثل التي حدثت في 25 يناير 2011 لن يكون التعامل الشعبي مع الدور الأمريكي كما كان في السابق.
4- ضرورة التعامل مع السياسات التي ينتهجها السيسي في مصر خاصة في ظل الحديث عن تعديلات دستورية مرتقبة تؤبد الحكم العسكري في مصر، وتزايد وتيرة تنفيذ أحكام الإعدام للخصوم السياسيين المؤييدن للشرعية الرافضين للإنقلاب العسكري بصورة قد تدفع في اتجاه تنامي الشعور باليأمس من امكانية التغيير السلمي وعدم جدواه، ومن ثم تزايد اتجاه التغيير المسلح للنظام مما ينتج عنه دوله فاشله بكل ما تحملة الكلمة لن تستطيع الولايات المتحدة تحمل أعباء وجودها بهذا الحجم السكاني الضخم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.