شاهدت أول أمس برنامج ما خفي أعظم والذي عرض لحادثة وقعت منذ قرابة العام واكتنفها الغموض الشديد، جلست طوال مدة العرض مشدود الانتباه لا تكاد عيني ترمش، أشعر بالفخر الممزوج بالقلق، الفخر بما وصلت له المقاومة من تقدم تكنولوجي وقدرة على إدارة حرب عقول من طراز متقدم للغاية، أما القلق فهو نابع من التفكير فيما قد تكون صنعته إسرائيل داخل مجتمعاتنا غير المحصنة ضد اختراقاتها وإسرائيل لا تميز بين من وقع معها معاهدة سلام ومن لم يوقع.
تذكرت منذ سنوات طوال حينما زرت مع شباب الكشافة موقع تبة الشجرة الواقع في القنطرة شرق وكنا نبيت في الإسماعيلية وعندما تحركنا من موقع المبيت إلى موقع تبة الشجرة كان ينتابني شعور غريب هو نفس الشعور الذي انتابني أثناء مشاهدة الفيلم الوثائقي، شعرت بالفخر الممزوج بالقلق، الفخر بهزيمة إسرائيل والقلق من الوضع السائد وقتئذ من محاولة لجعل إسرائيل صديقة أو على الأقل ليست عدوة.
في حرب العقول الدائرة بين المقاومة والكيان الصهيوني الغاصب، لم يكن غريبا أن تكون هناك شبكة اتصالات خاصة بالمقاومة لكن الغريب أن تفشل إسرائيل في اختراقها وأن تتكبد كل هذا الثمن الكبير من أجل فقط إحداث اختراق |
ما جعلني أقارن بين ما شاهدته في برنامج ما خفي أعظم وما شاهدته في موقع تبة الشجرة وهو التحصين والحماية والحرص الشديد على تأمين حياة الفرد المقاتل، أطلق على الموقع اسم تبة الشجرة، لأن ممراته كانت ترى على شكل شجرة ذات 15 أو 19 فرعا، هناك خنادق وغرف معيشة وغرف قيادة وأخرى للتحكم في المعركة، وتكمن أهمية الموقع في أنه يقع على بعد حوالى 10 كم من الشاطئ الشرقي لقناة السويس، ينقسم الموقع إلى قسمين إداري وسكني وكلاهما مغطيان برمال صفراء بكميات كبيرة يعلوها قضبان سكك حديدية، يعلوها صخور بارتفاع مترين تقريبا معبأة في شبك من الأسلاك، صنعت خصيصا في ألمانيا لتحمل العوامل الجوية، ثم طبقة أخرى من الرمال الصفراء، وذلك ليتحمل أي قصف، وداخل المقر الإداري غرفة عمليات بقيادة ضابط مجهزة باللاسلكي للتوجيه الفوري وغرفة مناوب عمليات وغرفة طوارئ مجهزة طبيا ومخزن طعام وفتحات هروب مصممة للهروب في حالة الطواري ومن الخارج محاطة بمدفعية ودبابات ومراكز مراقبة، إلى جانب حقول ألغام.
هذه المشاهدات وهذا الشرح الذي استمعت إليه من الضابط المسؤول في الموقع جعلني أشعر بالفخر، كيف أن قواتنا استطاعت خلال يوم ونصف من القتال الشرس السيطرة على الموقع وعندما حاول العدو استرداد الموقع فشل فشلا ذريعا وسقط اللواء عساف ياجوري في الأسر وكان أكبر رتبة عسكرية تسقط في الأسر أثناء حرب أكتوبر.
في حرب العقول الدائرة بين المقاومة والكيان الصهيوني الغاصب، لم يكن غريبا أن تكون هناك شبكة اتصالات خاصة بالمقاومة لكن الغريب أن تفشل إسرائيل في اختراقها وأن تتكبد كل هذا الثمن الكبير من أجل فقط إحداث اختراق في هذه الشبكة، فالوحدة المعروفة باسم سييرت متكال هي إحدى أهم وحدات الاستطلاع خلف خطوط العدو وتتمتع بسرية عالية ومن العجيب أن هذه الوحدة تكونت بمبادرة شخصية من صف ضابط برتبة صغيرة وهي رتبة رقيب يدعى إبراهام أرنان في العام 1957 وقد تقدم إبراهام بمبادرته إلى رئاسة الأركان وقبلت وأصبحت الوحدة خاضعة مباشرة لهيئة الأركان العامة وتصنف ضمن دائرة المخابرات ولها أعمال كثيرة قد ذاع صيتها، مثل تخريب وتدمير مشروع طاقة وبعض الجسور في مصر بالتعاون مع القوات الجوية في عام 1968، بعض عمليات الاغتيال الشديدة الخطورة، عملية عنتابة في العام 1976 حيث تم تحرير 100 شخص على متن طائرة تابعة للخطوط الفرنسية سيطرت عليها عناصر من منظمة التحرير الفلسطينية، وحولت وجهتها إلى مطار عنتابة في أوغندا، وقتل في العملية قائدها يوناتان نتنياهو الشقيق الأكبر لبنيامين نتنياهو رئيس وزراء العدو.
من هنا تتضح أهمية هذه الوحدة التي قامت بالتسلل إلى غزة من أجل زراعة منظومة تجسس لاختراق شبكة اتصالات المقاومة في غزة، تسللوا عبر أسماء فلسطينية حقيقية لعائلة واحدة، دراية تامة بالحالة الصحية لكل فرد من أفراد العائلة، باص مشابه تماما لنفس الباص الذي تملكه العائلة غير أن الباص وإن ظهر بمظهر الموديل الثمانيني إلا أنه كان مجهزا بأحدث الأجهزة والوسائل والمعدات التي تمكنهم من أداء المهمة بنجاح، إتقان شديد للهجة الفلسطينية وكأنها لغتهم الأم، أدوات الحفر ومسدسات كاتمة للصوت وأغطية عازلة لصوت ضجيج المعدات أثناء العمل.
جاءت الضربة التي مثلت سقوط مروع لهذه الوحدة التي كانت مبعث فخر لكل من خدم فيها، لم تكن ضربة المقاومة هكذا اعتباطا وإنما يقظة ومتابعة لكل ما يتحرك على الأرض، دخلت الوحدة غزة عبر ثغرة في الحدود نتجت عن ضرب الطيران لكاميرات المراقبة في هذه المنطقة من الحدود، تعامل المقاومة مع الأحداث بعد ذلك كان تعاملا احترافيا، إخفاء المعلومات والتعامل مع الحدث بمستوى احترافي على كل الجوانب والأصعدة.
إن أشد ضرر وقع لوحدة سيريت متكال منذ تأسيسها هو ما أحدثته المقاومة عبر مهندسيها الذين تمكنوا من فك شفرات كاميرات المراقبة الخاصة بالوحدة مما ساهم في الكشف عن الشخصية الحقيقية لأفراد الوحدة، بل وأكثر من ذلك أماكن التدريب والإعداد والتجهيز. الحادثة أيضا سلطت الضوء على اختراق المنظمات الإنسانية من قبل أجهزة المخابرات فقد أثبتت التحقيقات التي أجرتها المقاومة أن الوحدة استخدمت أدوات دخلت غزة تحت غطاء منظمة عمل إنساني.
هذه الحادثة بكل ملابساتها تهتف قائلة: إنه لنصر وفتح مبين، يحق لكل محب للخير أن يفرح به ويتحدث عنه، إن ليلة سقوط السيريت متكال ليلة سيؤرخ بها في تاريخ صراعنا مع العدو الصهيوني.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.