في المقال الأول وضعت أربعة محاور أتناول الموضوع من خلالها، أنهيت المحور الأول وهو التعريف بالشيخ الإمام وفي هذا المقال أود أن أتناول بقية المحاور حتى تكتمل الصورة وتصل الرسالة وتتضح الرؤية، ولست أستهدف بمقالي هذا وما سبقه النيل من أشخاص أو الحط من قدر أحد، بل الغاية والهدف والمراد أن نعرف للكبار فضلهم وندرك أبعاد الألفاظ قبل النطق بها.
بداية مصطلح التطرف لم يرد كلفظ في الشرع وقد استعمله علماء الإسلام وفق مدلولاته، واللفظ الذي ورد في الشرع هو الغلو، قال تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ" (77، المائدة)، وقال – صلى الله عليه وسلم – (أيها الناس! إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) (أخرجه أحمد:1/215، والنسائي:268، وابن ماجه:3029)، ومعنى التطرف كما عرفه العلماء: الوقوف في طرف الشيء والخروج عن الوسط والاعتدال فيه وهو بهذا المعنى يشمل التشديد والتسهيل.
علامات الغلو في الدين:
أجمع أهل العلم أنه لا يجوز لغير المختص أن يقيم المختص في تخصصه لأنه -أي المختص- هو أهل الدراية والمعرفة بدقائق الأمور في تخصصه والتي غالبا ما تخفى على غير المختص |
قبل الحديث عن العلامات يا أسما، دعينا نتعرف على معنى الغلو، الغلو كما عرفه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في كتابه (فتح الباري: (13/ 278) أنه: (المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد)، وبعد التعريف لابد من معرفة الضابط أي المعيار الذي يُحدَد وفقه الغلو لأن عدم وجود معيار يُرجع إليه سيجعل الأمر نسبيا يختلف من بيئة لأخرى وثقافة لأخرى فما يعده شخص من التطرف يعده غيره من التوسط والاعتدال وقد يعده آخر من التساهل والتفريط، بل العجيب يا أسما أن الشخص ذاته قد يفعل فعلا أو يعتنق فكرا ثم يستبين له أنه غلو وخير مثال على ذلك ما حدث في العام 1997 عندما قدمت الجماعة الإسلامية مبادرة نبذ العنف وصنف قاداتها مصنفا تحت اسم (نهر الذكريات، المراجعات الفقهية للجماعة الإسلامية) وحمل توقيع كرم زهدي، ناجح ابراهيم، علي الشريف، أسامة حافظ، حمدي عبد العظيم، فؤاد الدواليبي، عاصم عبد الماجد، عصام الدين دربالة، كان هؤلاء هم القادة ومن خلفهم آلاف الشباب، لذا لابد أن يكون واضحا الضابط الشرعي حتى لا يحدث أي خلل.
الضابط الشرعي للغلو أو التطرف هو المبالغة والزيادة على الحد المأذون فيه شرعا ولابد من ملاحظة أن الشرع هو المصدر الوحيد في تعيين مدلول الغلو والتطرف وفي إطلاقه على أي فعل أو قول أو سلوك. وبهذا يتضح أن المعيار في تحديد المظهر من مظاهر الغلو إنما هو إلى الشريعة فإن الغلو تجاوز لحدودها فما لم تعلم تلك الحدود، فإن المعيار سيكون مختلاً، لذا لا يصح وصف شخص بالغلو لأنه التزم رأياً فقهياً متشدداً – من وجهة النظر المخالفة له – إذا كان التزامه بناءً على أحد أمرين:
– اجتهاد سائغ شرعاً لمن بلغ درجة الاجتهاد.
– تقليد لعالم شرعٍ موثوق في دينه وعلمه لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد.
نعود لعلامات الغلو، إن من أهم علامات الغلو أن تجد الشخص يسعى لأن يحمل الناس حملا على فعل أمر يسوغ فيه الخلاف وقد اختلف فيه الأئمة المعتبرون وهم أهل التخصص. اتباع المتشابهات وترك المحكمات ومن أبرز الأمثلة على هذه العلامة موقف الخوارج من التحكيم بين سيدنا علي وسيدنا معاوية، قالوا لابن عباس: إن الحكم إلا لله، كيف نرضى بالتحكيم بين علي ومعاوية؟، لا نرضى بالتحكيم، الذي يرضى بالتحكيم كافر، فالذي حكم بين علي ومعاوية كافر، وعلي كافر، ومعاوية كافر؛ لأنهما رضيا بالتحكيم، سألهم ابن عباس ما هي أدلتكم: قالوا: قال الله تعالى: "إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ" [سورة الأنعام: 57]، يعني: الحكم لا يكون إلا لله، أي حاكم يحكم بأي شيء إذن هو مخالف لله، إذن هو كافر!، والذي يرضى بحكمه كافر!، ابن عباس ناقشهم ووضح لهم الفرق بين الحكم والتشريع، قال: ألم يقل الله تعالى: "فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا" [سورة النساء: 35]. إلى آخر النقاش الطويل الذي رجع بسببه قرابة ثمانية آلاف من الخوارج من أصل اثنى عشر ألفاً وبقي منهم أربعة آلاف على أحد الأقوال.
– تناول أهل المعاصي بفاحش الكلام وعدم الرفق بهم وعدم ترغيبهم في الدين.
– تحريم الطيبات التي أحلها الله، فمثلا من المغالاة أن يحرم الإنسان على نفسه أكل اللحم ظنا منه أنه بذلك يصبح زاهدا.
– النهي عن المنكر عبر إتيان منكر أكبر منه.
– اتهام الناس في نياتهم، هذا نيته الرياء وهذا نيته كذا وكذا، وما أدراك أنت بنياتهم؟!، فتجده دائما وأبدا نهجه سوء الظن.
– التعصب لمذهب من المذاهب وهي علامة من أبرز علامات الغلو.
– تناول المسائل بصورة مبالغ فيها وتضخيم الأمور حتى مثلا تجده يجعل من استخدام معجون الأسنان هدم لهوية الأمة.
وهناك الكثير من العلامات هذه بعضها ولعلها أهمها، أنتقل الآن إلى المحور الثالث من المحاور الأربعة التي طرحتها في بداية الكلام.
أجمع أهل العلم أنه لا يجوز لغير المختص أن يقيم المختص في تخصصه لأنه -أي المختص- هو أهل الدراية والمعرفة بدقائق الأمور في تخصصه والتي غالبا ما تخفى على غير المختص ويستشهد أهل العلم بقول الله – تعالى- (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (سورة النحل:43) وكذلك ما جاء في حديث ابن عباس وجابر وغيرهما في قصة صاحب الشجة أن رجلاً من الصحابة كان في غزوةٍ فأصابته جراحة (شجة في رأسه) فاحتلم ليلاً وأراد أن يغتسل- احتلم وخاف إن اغتسل أن يتضرر- فسأل فقالوا له: لا نرى لك إلا أن تغتسل، فاغتسل فمات، فلما علم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال} فالذي فيه عي وجهل شفاؤه أن يسأل، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يعلموا أن يسألوا من يعلم. وكما لا يعقل أن يتناول الفقيه تقييم طبيب في تفاصيل طبية كاستخدام أدوات جراحية وطريقة إجراء العملية وما شابه من دقائق التخصص فكذلك لا يعقل أن يقيم طبيب رأي فقيه في مسألة فقهية ويأتي بكلام من كيسه لا يمت للشرع بصلة.
تقديس العلماء وجعلهم معصومين أمر غير موجود في ديننا الحنيف، فالعصمة للأنبياء ولا عصمة لأحد من بني البشر غيرهم، وهناك فارق بين التقديس وهو التنزيه عن كل خطأ والعصمة من الزلل وبين الاحترام وهو أمر واجب للعلماء دلت عليه النصوص الشرعية فهم من شهود الله على أعظم مشهود به وهو توحيد الله -عز وجل- كما قال -تعالى-: {شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: (في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم؛ فإنه لو كان أحدٌ أشرفَ من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء). وبيّن – سبحانه – أن أهل العلم هم أهل الخشية من الله {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} [فاطر:28]. وبيّن الله فضلهم فقال – سبحانه – {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزُّمر:9]، وقال -سبحانه-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11].
وكذلك أكد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على فضل ومنزلة العلماء، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علمًا سَهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له مَنْ في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتانُ في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر» (رواه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني في صحيح الترغيب) . وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» (رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الترمذي).
وفي الحض على احترامهم وتوقيرهم ما ورد عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه» (رواه أحمد والترمذي)، وأيضا عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ من إِجْلَالِ الله إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فيه وَالْجَافِي عنه وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» (رواه أبو داود وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع [2195])، وفي الحديث القدسي: «مَن عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب» [رواه البخاري] قال الإمام الشافعي: "الفقهاء العاملون".
وبين العلماء في تناولهم لفضل أهل العلم وضرورة توقيرهم أن الانتقاص من العلماء أمر خطير، فقد قال الحافظ ابن عساكر -رحمه الله تعالى-: "واعلم يا أخي -وفقنا اللَّه وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته- أن لحوم العلماء -رحمة اللَّه عليهم- مسمومة، وعادة اللَّه في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه برآء أمر عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على مَن اختاره اللَّه منهم لنعش العلم خلق ذميم". وفي الختام سحائب الرحمة على فضيلة شيخنا الحبيب الإمام محمد متولي الشعراوي، وأرجو أن تكون الرسالة قد وصلت إلى مسامعك يا أستاذة أسما.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.