هناك بون شاسع بين الحديث عن المؤسسات والحديث عن الأفراد، فعندما نتحدث عن النّظام فنحن نعني: مؤسسة تُسير شؤون البلاد بغض النظر عن الطريقة والسبيل الذي سلكته حتى ظفرت بهذا الشرف والتكليف، وعندما نقولُ: مؤسّسّة يعني وجود هرم في أعلاه رئيس الدولة، وفي أسفله العمال المعيّنين عن طريق التشاور المؤسسي، وعندما نتحدث عن العسكر فنحن بالضرورة نتحدث عن مؤسسة تسيّر شؤون العساكر لا الجيش ككيان جامع حامي، أو أفراده بصفة عامة هذا من باب التوضيح.
الجزائر كغيرها من الدول العربية تعيش منذ زمن تحت حكم أحادي مستبد استبد إلى درجة أن المواطن الجزائري لم تكن له قنوات من خلالها يمكن أن يوصل أشغاله ومطالبه وآراءه وتطلعاته وتناقضاته، ومن أبسط نتائج الرؤية الأحادية والمنطق الأوحد أن الجزائر لم تعرف الإعلام الحر أو المستقل إلا منذ سنوات قليلة جداً، وهذه نقطة يتفوق بها نظام الحكم الجزائري عن بقيّة الأنظمة العربية الشمولية التي جسمت على صدور الشعوب العربية ردحاً طويلا من الزمن، ولم تقدم سوى ما تعيشه الشعوب الآن والواقع يُغني ويَحول عن شرحه فهو أعقل من يشرح.
حُكّمت الجزائر بالقبضة الحديدية والمنطق الأعنف منذ زمن مبكر منذ انقلاب الراحل هواري بومدين الذي يُدرّس في المدارس الجزائرية على أنه تصحيح ثوري لا انقلاب عسكري إلى يومنا هذا. لن نتكلم عن عمر وجو الحكم العسكري في الجزائر؛ لأنّ ذلك سيحتاج إلى مقالات لا مقال، ولكن سنسلط الضوء باقتضاب على مرحلة ما قبل البوتفليقية إلى أيامنا هذه المريرة. شاهد الحال يُقّر أن الجزائر لم تكن في منأى عن جو السلطة الأحادية الاستبدادية والتخلف الذي تعيشه بقية الدول العربية، بل هي جزء أصيل لا يتجزأ من هذا العصير المعصور بأعصر ما يمكن أن يَعصرَ.
مما علمتني الحياة أن الحقيقة الساطعة مكانها في الشوارع المزدحمة المهمّشة الثائرة، والميادين المزلزلة، والقرى النائمة من الأنين والوجع، وعلى ألسنة البؤساء المعدمين |
قبل أن يلمع نجم بوتفليقة كانت الجزائر تتخبط في حرب شرسة لا هوادة فيها والسبب الأصيل فيه الرؤية الأحادية والعقلية البدائية التي حالت دون ما أراد الشعب فكانت النتيجة كارثة بكل ما تحمل الكلمة على الأقل أرجعت الجزائر قروناً مديدة، وفي ذروة الأحداث كان هناك من يُجهّز ويُحضّر من قبل المؤسسة العتيقة صاحبة الجرم الأكبر الممتد ليكون المخلّص والرمز الأوحد؛ لأننا كعرب تربينا منذ الصغر الحضاري على الترميز والتقديس، ونسج قصص الخيال وحبكها من أجل عيون فرد أوحد ليستبد ويبطش بنا وينتفخ بعرق جبيننا. قُدّم الزعيم الجديد للعامة والخاصة فهلّلّت وكبّرت وبدأت صيحات التقديس تعلو من جديد، وتم ما أرادتْ الشّلّة المدبرة التي لم تسلم من تدبيرها الجزائر يوما اللهم إلا يوم الثورة الأعظم.
من ذلك اليوم ولا صوت يعلو فوق صوت المخلص وجماهيره المخدوعة أحيانا لقلة الزاد المعرفي، أو لقلة الشيء المادي وشح الحياة، أو لملئ الجيب تعددت الأسباب والنتيجة واحدة جمهور المخلص، وفي عتو أيامه من يلمز أو يهمس في حقه فهو الخائن الأكبر والشيطان الاعظم إلى يوم من أيام الشعب الثاني والعشرين يناير 2019م بعد هبوب نسائم الحرية من كل صوب واستنشاق الشعب تلك النسائم العليلة خرج ليطرد ويُخرج كل فاسد أفسد من أرضٍ تتطهر ولا تتدنس، ولكن الدوائر العميقة والمؤسسة العتيقة كانت بالمرصاد، فلما أحست بالخطر حركت أذرعها الخبيرة من أجل أن تسيّج مطالب الشعب؛ وتوّجهها وفق خططها المحكمة، ووفق هواها البليد، والأدهى والأمر أن تقنن من جو الحرية الذي أوشك على أن ينطلق بلا قيود ولا حدودٍ، وذاك ما يُخيف الجبابرة والطغاة ويعكر مزاج بيئات الركون؛ لأن كسر القيود وشهيق الحرية يعني قيامة عصر جديد لا يمكن أن يخطر على بالٍ إلا على بال من جرّب وعاش الحدث: المواطن الغربي؛ لأنه عاش تلك اللحظة وتلك التجربة المضنية يوماً من الأيامِ فكانت مخرجاته حضارة اليوم وما أدراك؟.
استشعرت مؤسسة القوة بالخطر الداهم فعملت من خلال أذرعها العديدة على صدّه وردّه فاستعملت الحيلة والمكر وضحّت بالذي كان يوما ما: المخلص، والرمز الأوحد وزبانيته على أثره، ونُسِبت إليه وعشيرهِ كل التّهم التي تصل إلى حد الخيانة العظمى، وتبعاً يدندن صوت العدالة ناطقاً بإيعاز بجناية عشيره وزُجَّ بهم في غياهب السجون، فصدقت العامة والخاصة الحبكة المحبوكة واستبشرت، كما صدقت يوما مضى بأنه المخلص (بوتفليقة) واتباعه نزهاء أشراف، خدمة الوطن والأمة، ولذا كان لابد من استعمال أقوى الأدوات من حيث التخدير والتسميم والتغييب فكان لا مناص من استعمال الإعلام بكل صوّره.
الإعلام في بقاعنا قاطبة لم يقم إلا على الولاء والخدمة المفْرطة للمنظومات العتيقة البالية المتجبرة؛ لذلك مهما تلون يبقى الابن البار لها، وفعلا تجده في وقت الشدة أبر لها من أي آخرٍ، بدأ الإعلام يروّج للقائد الأعلى، وكأن الدولة أصبحت هو، وهو الدولة، وأصبح عنوانا لمواضيع كلّ الشاشات، زار فلان، دشن فلا، أشرف فلان، نشط فلان، تاريخ فلان، صرح فلان، أدلى فلان، هدّد فلان، عيّن فلان، عزل فلان، النتيجة أصبح القائد عنواناً وفرضية ومحتوى في آنٍ، واستمر الإعلام في وظيفته التي وجّدَ من أجلها وأصبح لا يستضيف إلا من يرى ويطرح تلك الوجهة، وجعل أوجه معينة ذات تأثير لتقود الجموع العامة لرؤية معينة تخدم مصالح المؤسسة العتيقة وروادها، وفعلا إلى كتابة هذه المفردات وفق الإعلام إلى أعلى درجة في تحقيق ما يُملأ عليه.
بالإضافة إلى الإعلام خدمت الأحزاب وخاصة منها الإسلامية المنظومة الماورائية صاحبة القرار الحقيقي _المؤسسة العسكرية_ خدمتها في عدة محطات بدءً بندائها الشهير: ليشرف العسكر حتى نعبر لشاطئ الديمقراطية!! إلى القرار الأخير المشاركة في الانتخابات والدعوة لها عبر مختلف قنوات التواصل، وتجنيد شبابها بألمع وأدمغ عبارات الثناء والمدح لتنثر وتوزن لحناً في حق القائد الأعلى، وعلى نفس المنوال أو أشد وطأة كان أصحاب المصالح والمنافع الذين لا يبحثون إلا على ما يزيد البطون انتفاخاً وهؤلاء سواء ممن ينتمي لمؤسسة، أو مواطن عادي لكن الميكافيلية هي ناموس الحياة بالنسبة له؛ لذلك كانت هذه الشريحة كغيرها من الشرائح بوق وعون مادي ومعنوي للوصول بالجزائر إلى هذا المطاف وهذا الوحل الموحل، وكانت من ضمن الأسباب الأساسية التي جرّت الجزائر إلى هذه المحطة التعيسة، ويبقى الأمل في الله ثم في أحرار وشرفاء الوطن الأبي.
مما علمتني الحياة أن الحقيقة الساطعة مكانها في الشوارع المزدحمة المهمّشة الثائرة، والميادين المزلزلة، والقرى النائمة من الأنين والوجع، وعلى ألسنة البؤساء المعدمين، وفي مواقع التواصل الفيس، تويتر إلى آخر وسيلة محترمة، وعلى ألسنة الشباب المتحرّر من أي سلطة لا دينية ولا سياسية ولا اقتصادية، وأبعد ما تكون من ألسنة النخب المزيفة، والإعلام النظامي المرتزق ومن على شاكلته ولو ادعى الاستقلالية والقرار الحر، وأبعد ما تكون من ذوي العمم المدعّمة، والأحزاب المنتفعة، والشوارع الفارهة. والمدن العامرة، ومن ظل الله في الأرض (الفرعون) الذي تعشق بلاد الفقر والحرمان والقاع ترابه التي يتكون منها ويمشي عليها.
وأخيرا وليس آخرا لأن الكلام أعرض وأعمق من ذلك؛ إلا أن طريق التغيير نحو الآمال المنشودة ليس مفروشاً بالورود؛ إنما على قدْره وجلاله، والحرية والكرامة من أسمى المطالب والمكاسب ودربهما أشق مما هو متخيل، وطريق التغيير هو الطريق الخالي تماماً من أي مظاهر أو أنفاس عسكرية. هو قيام الجيش بمهامه المنوطة به وهي: حماية الحدود والوقوف على الثغور وصد جبهات العدوان، والانتفاء من الحياة السياسية والمدنية. درب المدنية بامتياز يعني أن يخيم جو المدنيّة وتصبح الديمقراطية واقع حياة، ولا تعلو راية فوق راية الحرية، والكرامة، والعدالة، وعندما تتجلى المدنية ساعتئذ تسطع الأفكار العقلانية النورانية لتنير ربى الوطن ليّعم نوره كل الأوطان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.