منذ أيام وُصف الإمام محمد متولي الشعراوي بأنه متطرف! جاء الوصف على لسان أسما شريف منير، ابنة الممثل شريف منير، في الحقيقة أنا لم أندهش من فعل أسما لأنه ينطبق عليها المثل المصري (اللي ميعرفش يقول عدس)، لكن من الملاحظ تعرض الإمام الجليل لتجريح وتطاول على مقامه العلمي وشخصه الكريم في السنوات الأخيرة كما لم يحدث في أي فترة سابقة فتارة مفيد فوزي يصف الشيخ بأنه مهد الأرض أمام التطرف وتارة أخرى فريدة الشوباشي تقدح في حب الشيخ لمصر ودخل على الخط خالد منتصر الذي لطالما حمل لواء العلمانية في أبشع صورها، فها هو يشن هجوما على الإمام الرباني لأجل الخمرة والعري متعللًا بأن للسائح أن يفعل ما يشاء كهذا تنشط السياحة من وجهة نظره، ثم يأتي الممثل خالد أبو النجا ليهرف بما لا يعرف قائلا: (الشعراوي مثال صارخ للجهل بالعلم)، وأستغفر الله على نقل كلامه هذا ولكني أردت أن أبين للقارئ الكريم إلى أي قاع سقط القوم.
بداية أود أن أقسم كلامي إلى أربعة محاور رئيسية:
– من هو الإمام محمد متولي الشعراوي، العالم العلامة البحر الفهامة؟
– ما معنى كلمة تطرف وما هي علامات الغلو في الدين؟
– هل يجوز لغير المختص أن يقيم المختص في تخصصه؟
– ما الفارق بين تقديس العلماء واحترامهم الواجب لهم؟
من أهم مواقف الإمام والتي تحسب له وقوفه أمام فكرة نقل مقام إبراهيم في العام 1954 حينما أراد الملك سعود أن يوسع الحرم واقترح الشيخ الشكل الحالي للمقام |
الإنسان عدو ما يجهل وكلي ثقة أن أسما شريف منير تجهل تماما الشيخ الإمام ربما لحداثة سنها وكذلك الوسط الذي تربت فيه فالوسط الفني لا يخفى على أحد مدى السطحية المعرفية التي يتسم بها أهله والموقف المعادي لأوامر الشرع حتى يسوغوا لأنفسهم فعل المنكرات تحت اسم الفن، لذا أود أن أخبرك يا أسما على أي مقام تطاولتِ وبحق أي قيمة تجاوزتِ، إنه الإمام الحبر الذي أفنى عمره لله وفي الله وبالله، ولد الإمام في العام 1911 بقرية دقادوس مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية بمصر، أتم حفظ القرآن الكريم كاملًا في الحادية عشرة من عمره، التحق الإمام بكلية اللغة العربية سنة 1937م.
اللغة العربية وعاء العلم وأساس الفهم، شارك في ثورة 1919 وهنا ينبغي أن أذكر بالأزهر الشريف الذي كان منطلق الثورات وكيف كان يؤثر الأزهر في أبنائه، وكيف كان أبناؤه يؤثرون في الأمة، انضم الشيخ الشعراوي إلى الحراك المناهض للإنجليز، واتصل بجماعة الإخوان المسلمين ثم أصبح وفديا، وعندما نلقي نظرة على حياته العملية الوظيفية نجد الأنموذج الرائع للمدرس الناجح في معهد طنطا الأزهري ثم المعهد الديني في الزقازيق ثم المعهد الديني في الإسكندرية وبعد قرابة السبع سنوات من العمل في الحقل التعليمي يغادر الإمام إلى السعودية ليعمل أستاذاً للشريعة في جامعة أم القرى وكان ذلك في العام 1950 ثم يعود إلى مصر في العام 1963 بعد خلاف بين الرئيس عبد الناصر والملك سعود ليتطور الأمر إلى سحب البعثة التعليمية، يعود الشيخ وقد اكتسب خبرة أكاديمية معتبرة، يعمل الشيخ في مكتب الإمام الأكبر شيخ الأزهر كمدير لمكتبه ثم يعود للسفر خارج مصر هذه المرة كرئيس لبعثة التعريب في الجزائر، أتدري يا أستاذة أسما ما هي مهمة بعثة التعريب؟
إنها البعثة التي عملت على محو آثار المحتل الفرنسي الذي أراد مسخ الهوية لدى الشعب الجزائري عبر فرنسة كل شيء حتى التعليم هذا الحق الأصيل، حق التعليم عبث به الفرنسيون، وأثناء وجود الشيخ في الجزائر يتعرف على الشيخ محمد بلقايد العالم الرباني والشيخ الصوفي ذي القدم الراسخة في علم تزكية النفوس، ثم يعود الشيخ إلى مصر ويتدرج في المناصب في وزارة الأوقاف ويغادر ثانية إلى السعودية ليُدرس في جامعة الملك عبد العزيز ويعود بعد فترة ليتم اختياره كوزير أوقاف في حكومة ممدوح سالم عام 1976 في عصر الرئيس السادات ليمكث في الوزارة قرابة العام، قدم خلاله استقالته ثلاث مرات للرئيس السادات ويرفضها الرئيس إلى أن تغيرت الحكومة بأكملها.
وهو صاحب البرقية الخطيرة وقتها وقت أن زج السادات بالجميع في السجن وخرج في مجلس الشعب متحدثا عن اعتقالات سبتمبر وواصفا الشيخ المحلاوي أنه (مرمي في السجن زي الكلب) فأبرق الشيخ إلى الرئيس ببرقية قال فيها: (إن الأزهر الشريف لا يخرج كلابًا بل يخرج شيوخًا أفاضل وعلماء أجلاء) ولم يقدم السادات على اعتقاله لما كان سيحدثه اعتقال الشيخ من غضب شعبي عارم، ومن أهم مواقف الإمام والتي تحسب له وقوفه أمام فكرة نقل مقام إبراهيم في العام 1954 حينما أراد الملك سعود أن يوسع الحرم واقترح الشيخ الشكل الحالي للمقام، أن يبقى المقام في مكانه و يوضع الحجر في قبة صغيرة من الزجاج غير القابل للكسر، بدلا من المقام القديم الذي كان عبارة عن بناء كبير يضيق على الطائفين.
ومن عجائب القدر أن يُتوفى الإمام في العام 1998 نفس العام الذي تُوفي فيه حبيب قلبه الشيخ محمد بلقايد والذي ولد أيضا في نفس عام مولده 1911 وقد نظم الإمام أبياتا وقت كان بالجزائر عبر فيها عن حبه وتقديره للشيخ بلقايد، حيث قال:
نور القلوب وريّ روح الوارد هبرية تدني الوصول لعابد
تزهو بسلسلة لها ذهبية من شاهد للمصطفى عن شاهد
طوّفت في شرق البلاد وغربها وبحثت جهدي عن إمام رائد
أشفي به ظمأ لغيب حقيقة وأهيم منه في جلال مشاهد
فهداني الوهّاب جلّ جلاله حتى وجدت بتلمسان مقاصدي
واليوم آخذُ نورها عن شيخنا محيِ الطريقِ محمد بلقايد
وفي يوم رحيل الإمام لي ذكرى لا أنساها فقد رأيت أبي يبكي بكاءا شديدا وقد تأثر أحد أقاربنا أيضا وسافر من الصعيد متكلفا معاناة ليست بالبسيطة ليحضر صلاة الجنازة على الشيخ، كنت صغيرا وألحظ ذلك الحزن البادي في وجوه الكثيرين، وهذا العام يمثل لي عدة ذكريات ففيه أكرم الله أبي بطفلين توءمين وأيضا شهد هذا العام هجرتنا من الريف إلى الحضر وهي الهجرة الأولى والتي سيعقبها هجرة ثانية من مجتمع إلى مجتمع وفي المجمل هو عام لا ينسى، عرجت بكم سريعا على السيرة العطرة للإمام القدوة، ليدرك كل من جهل الإمام عمن يتحدث، ولي الآن وقفة مع خواطر الإمام في تفسير القرآن، أود فيها أن بين ما لمسته والكثيرون مثلي من عذوبة البيان واستخدام اللغة بطريقة مازجة بين العمق والبساطة والفصاحة، والقدرة العجيبة التي تمتع بها فضيلة الإمام في حسن استخدام لغة الجسد وكذلك طرح الفكرة وانتظار الإجابة من المستمع في جو تفاعلي وضرب الأمثلة لتقريب الصورة إلى ذهن المستمع بطريقة غاية في الروعة والجمال وتظهر المسحة الصوفية واضحة جلية في حديث الشيخ ليزكي بها نفس المستمع فيحدثنا الشيخ وكأنه يتحدث من مرتبة الإحسان وقد عبر مرتبة الإسلام ثم مرتبة الإيمان، تلك مراتب الدين ومرتقى الوصول إلى رب العالمين، فرحمات الله تترا على شيخنا الحبيب، انتهيت من المحور الأول وأرجو أن تكون قد وصلت الفكرة، على أن أتناول في مقال أو مقالات قادمة إن شاء الله بقية المحاور الأربعة التي افتتحت بها حديثي، فإلى الملتقى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.