كثيرٌ منا يتَّخِذُ قراراتٍ في حياته منها الصائبةُ، ومنها الخاطئة، وإحدى تلك القراراتِ التي كنتُ أنوي اتّخاذَها هو التغييرُ من حالتي التي يُرثى لها – بنظري – إلى حالٍ أفضل. أردت أن أكونَ إنسانةً أخرى تبحث عن هدفٍ مختلف، من هدفٍ سخيفٍ كنتُ أبحثُ عنه إلى هدفٍ سامٍ يعلو بالأمة، ويخدمُ القضيةَ الفلسطينيةَ، إلى هدفٍ نحن أحوجُ إليه في هذه الأيام.
لم يكن هذا الهدف حصدَ تفوقٍ علمي، أو درجاتٍ عالية في البكالوريوس، أو التخرجَ من أفضلِ الجامعات، بل إنما هو تغيير، ولأنَّ الذي اخترتُه كان عظيماً فهو ليس أيُّ تغيير، قد كان تغييرًا من أسوأ إلى أحسن، لذلك تحتَّمَ عليَّ السيرَ في طريقٍ طويلٍ وصعب، فدربُنا دربٌ طويل كما قال بلال الأحمد..
لا تقل لي أحب القدس، بعض المشاعر والصور على الفيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى لن تُضيرك شيئًا، الأقصى عقيدة |
بدأت بقراءة الكتاب، ولكن سرعانَ ما تركتَه ولم ألتزم بقراءته، فبدأت الأفكارُ تتولد لدي، ومن هنا بدأ العمل، عندما بدأت باستغلال التفكير والمنطق. قررتُ الاستماع إلى الدروس الدينية، ولا شكَ بأن لها الدورَ الأكبرَ في توليد النور في الصدور وتليين القلوب بعد قسوتها. بتُّ أداوم على قراءة الأذكار (الصباح والمساء) ومحاولة الالتزام يوميًا بوردٍ قرآنيّ محدد في وقت محدد، كنت أحاول البدءَ بالقليل من الآيات القرآنية تطبيقًا لمبدأ "قليلٌ دائم خيرٌ من كثير ٍمنقطع".. حتى جاء ذلك اليوم الذي دخل فيه أخوتي (وهم أطفال) على الغرفة التي أتلو فيها، وقد جلسوا بجواري بهدوء، استكملت تلاوتي للورد وهم لا زالوا جالسين، وقد خيَّم الصمت على المكان، أيعقل هذا؟!
أختي بطبيعتها الثرثارة، وزيد الفتى المتحمس الثائر، وعمرو الذي لا يكف عن السكوت للحظة واحدة، وعبد الملك الذي لا توجد كارثةٌ في المنزل فيكون السبب وراءها، إنهم صامتون! ومن هنا تولدت الفكرة الأخرى، الأطفال.. كنتُ أطلب منهم يوميًا المساعدةَ في الأعمال المنزلية، والبدء في قراءةِ الوردِ اليومي بعد الانتهاء منها، كان الحماسُ يبدو واضحًا عليهم، فقد كانوا ينتظرون فقرة الورد بكل لهفة، وهكذا استثمرت طاقاتهم في أمرين، الأول: عونُهم لي في الأعمال المنزلية، وثانيًا: الأجرَ العظيم الذي سأكسبه من وراء كل تعةٍ تنطق بها ألسنتُهم البريئة.. وبالفعل كان لهم الأثر الأكبر في سندي ومساعدتي، حتى أصبحوا بمثابةِ المنبه لي، فإذا نسيتُ أمر الورد عادوا يذّكروني "هلّا ابتدأنا بالقراءة".
ومن هنا أُسَرُّ بدوري، فأدركتُ أنه كما أنبت فيهم الزرع، فلا بد أن ينبتَ في ذاتي أيضًا.. وفي أحدِ الأيامِ طلب مني زيد أن نحضر فيلمًا أو مُسلسلًا كرتوني، فلمعت فكرةٌ أخرى في ذهني وهي: التلفاز، مواقع التواصل واليوتيوب، كيف أسخِرُ ذلكَ لصالحي، أحببتُ أن أحسن توجيههم فهم كالعجينة سهلة التشكيل. لم أُرِد أن يكون وقتُهم ضائع على سفاسف الأمور، وأنا بدوري أريد إسعادَهم، وتلبيةَ طلبهم، فاقترحتُ عليهم مشاهدة مسلسل (الروح) التي قامت إحدى القنوات الفلسطينية بإنتاجه قبل بضع سنين. لم ألقَ إعجابًا بالفكرة منذ البداية، ولكنني طلبت منهم أن يشاهدوا حلقةً واحدة، ولهم حريةُ القرارِ بعد ذلك في استكمال المسلسل، وبعد الحلقة الأولى منه باتوا يشاهدون ثلاثَ حلقات متتالية في اليوم الواحد.
كان للمسلسل دورٌ مهمٌ في تنمية حُبِ الوطن داخل صدورهم، وهذا ما كنتُ أتمناه وها قد نجحت خطةٌ أخرى، والكثيرَ الكثير من المسلسلات والأفلام الوثائقية التي شاهدناها سويًا منها: فيلم "معطف كبير الحجم" ووثائقي "مهندس الرعب" للشهيد القسامي يحيى عياش، وفيلم "الزواري طيار المقاومة". وقد لاقى فيلم مهندس الرعب إعجابًا كبيرًا منهم، حتى سمعت عمرو يقول ذات مرة "يجب أن نكون هادئين مثل يحيى عياش"! إنه الزرع ينبت، إنه ينبت.. السؤال الآن كيف لنا بنسيان الهم القديم؟ الجواب هو أن تشتغل بهم أعظم منه فالهم ينفي الهم، اشتغل لدينك ولآخرتك، للأقصى ولبيت المقدس.
لا تقل لي أحب القدس، بعض المشاعر والصور على الفيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى لن تُضيرك شيئًا، الأقصى عقيدة، وعلم كامل إذا أردت خدمتها، فلتتعلم علومها. وكما ورد في كتاب خواطر فتى لم يرحل "أصحاب الهمم والعزائم لا يهربون من الواقع ليكتبوا ما يشعرون به على لوحات الكيبورد، أصحاب الهمم لا يعرفون إلا شيئًا واحدًا: يغيّرون في الواقع، ينقلون مشاعرهم وأحاسيسهم في ميدان العمل لا في ميدان الكلام، كفاك كلامًا أيها الولد، مشاعرُك كلها زائفة مالم تتمثلها حقيقةٌ في حياتِك، أنت مخدوعٌ بمشاعرك، أنت مخدوعٌ بإعجاب الناس بكلامك!!". عليك البدءُ الآن، فلا يغُرنَّك معسولُ كلامِهم ولا مديحُهم حول ذاتك، اجلس مع ذاتك ثم قرر إلى أين ستذهب، وماذا ستفعل، واشتغل لقضيتك..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.