منذ سقوط حلب نهاية العام 2016 ومناطق سيطرة المعارضة السورية في شرق البلاد وغربها ومن شمالها إلى جنوبها، تنتظر دورها إلى ذات المصير، وسط مشهد يطغى عليه طابع الاستسلام أو الرضوخ تحت وطأة الضغوط الدولية والإقليمية. في المقابل بدأ نظام الأسد يتقدمه الروس ومعهم الإيرانيون، أكثر جدية وسعيًا للوصول إلى كافة المناطق السورية الخارجة عن سيطرتهم، مستغلين بذلك موقف المعارضة الضعيف، وانكماش الولايات المتحدة وحلفائها من المشهد السوري، حتى الوصول إلى خطة "أستانا" التي كانت الطريقة المُثلى لخداع الفصائل السورية وتطويع الأتراك للوصول إلى تصفية للقضية السورية أو حلّ لها لصالح النظام.
كان مبدأ "أستانا" واضحًا لدى الروس، وهو تقسيم المناطق "المحررة" إلى إرهابية وغير إرهابية، واستدراجها -جميعًا- إلى المصير نفسه واحدة تلو الأخرى، فلا الغوطة سلِمت ولا ريف حمص الشمالي ولا درعا، وجميعها كانت تصنف على أن من فيها مسلّحين معارضين وليسوا إرهابيين -ليس بينهم عناصر من "النصرة" أو "داعش"-، وبالتالي يخضعون لاتفاق "خفض التصعيد". وبعد أن خسرت المعارضة جلّ مناطقها، تتجه أنظار السوريين إلى آخر حصونها "إدلب"، النظام يحشد إعلاميًا وعسكريًا، وتتفق موسكو وطهران معه بالتأكيد على أن الحسم في المدينة لا بدّ منه.
إذ صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن "الوضع القائم في إدلب لم يعد يحتمل ومن المستحيل إبقاء الحال على ما هو عليه"، وذلك بزعم أن "نظام وقف إطلاق النار في سوريا يتم انتهاكه يوميا من قبل الإرهابيين"، وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف قال أيضًا إنه "يجب تطهير إدلب من المسلحين"، رابطًا إعادة إعمار سوريا وعودة اللاجئين والنازحين بسيطرة النظام على كل الأراضي السورية.
لدى إدلب خصوصية قربها من تركيا والاهتمام التركي منذ سيطرة المعارضة عليها بشؤونها المدنية والعسكرية، ما يجعل مصير المدينة مهما جدًا لدى أنقرة |
وبالرغم من هذه التصريحات فإن إدلب تمتلك خصوصية تزيد من التعقيد حول البتّ في مصيرها، أبرزها أن سياسة التهجير التي لجأ إليها النظام في المناطق التي سيطر عليها سابقًا، جعل منها خزانًا بشريًا لنحو أربعة ملايين مدني، ما يعني أن أي عمل عسكري قد يؤدي لكارثة إنسانية وموجات نزوح واسعة باتجاه مناطق أخرى، وبالرغم من تشديد الأتراك على خطورة هذه النتيجة، إلّا أن النظام السوري لم يتوانى سابقًا عن ارتكاب مجازر بشعة باستخدام صنوف الأسلحة، مستغلًا الضوء الضمنيّ الأخضر الذي منحه إيّاه المجتمع الدولي برعاية روسية، فما الذي سيمنعه من ارتكاب مجازر أخرى، لا سيما وأنه يعيش لذة "الربع ساعة الأخيرة قبل النصر"، كما قال وليد المعلم.
بالإضافة إلى ذلك، لدى إدلب خصوصية قربها من تركيا والاهتمام التركي منذ سيطرة المعارضة عليها بشؤونها المدنية والعسكرية، ما يجعل مصير المدينة مهما جدًا لدى أنقرة، التي تعتبر وصيّة عليها أيضًا ضمن اتفاق "أستانا"، لكن الأتراك اليوم وفي ظل خلافهم المتفاقم مع الأمريكيين وفرض التقارب مع الروس، لا يبدون قادرين على السير بعيدًا في ذات الاستراتيجية القديمة، حتى تصريحات وزير الخارجية جاويش أوغلو اقتصرت على التحذير من الكارثة الإنسانية المرتقبة حال حُسمت الأمور عسكريًا، وبعض التحليلات تشير إلى أن تركيا لن تمانع من عودة علاقاتها مع النظام في دمشق، شريطة الحصول على مكاسب سياسية لحلفائها المعارضين في أي حلٍّ سياسي منتظر، أو الإبقاء على بعضهم كوكلاء داخليين، عبر المجالس المدنية أو حتى الجسم العسكري.
الموقف الأمريكي الباهت اتضح في "تغريدة" ترامب بالتحذير من مهاجمة إدلب "بشكل متهوّر"، كما أن الرد العسكري -إن كان واردًا- سيكون مشروطًا بشن هجوم كيميائي، وطبيعة الرد لن تكون مغايرة لتلك التي تمت في نيسان الماضي، ببساطة الموقف الأمريكي الحقيقي يتضح بقرارات ترامب الأخيرة بوقف دعم فصائل المعارضة وإزالة الغطاء عنها، وجعل "قوات سوريا الديمقراطية" مشروع واشنطن في سوريا. ويعقد مشهد الحل في إدلب طبيعة الفصائل التي تسيطر عليها، والتي تندمج في جسمين، الأول هو "الجبهة الوطنية للتحرير" وعدد مقاتليه يقدر بـ 70 ألفًا، وتُعدُّ معظم فصائله من المعارضة المعتدلة، أي أنه من المتوقع أن تكون قابلية تطويعه لحل سياسي ممكنة، نظرًا لتفاهمهم مع الأتراك وما آلت إليه تجارب سابقة لفصائل قريبة في النهج كالجبهة الجنوبية مثلًا، ضمن سيناريوهات متشابهة وليست متطابقة.
أما "هيئة تحرير الشام" المصنفة لدى الأمم المتحدة "إرهابية" والتي يبلغ عدد مقالتيها حوالي 25 ألفًا، فإنها إن لم تقبل بالحل السياسي ستكون عرضة لجرّها إلى مصير مشابه لمصير تنظيم الدولة في الرقة، أو تعود إلى تموضع "تنظيم القاعدة" الطبيعي في تشكيل خلايا لشن هجمات في المناطق السورية. لن تتغيّر رغبة النظام في السيطرة على إدلب بأيّ ثمن، بل سيحاول الضامنون واللاعبون الاتفاق على تحديد طريقة للانتهاء من ملف المدينة، وعلى الأرجح ستكون الضغوط جميعها باتجاه الوصول إلى "حسم سياسي"، لا سيما وأنهم -تحديدًا الروس- في مراحل إعادة تأهيل النظام وإنعاشه وإعادة اللاجئين، ومن غير اللائق بالنسبة لهم أن تتم هذه المراحل بكثير من الدماء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.