"إنّ الفلسفة التاريخية تقوم على مبدأ هام وهو أنّ كل مجتمع يتكوّن من ثلاث مكوّنات: الأفكار، والأشخاص، والأشياء في فلك الأفكار الصائبة، ولكن المرض يصيب المجتمع حين تدور الأفكار والأشياء في فلك الأشخاص، وينتهي المجتمع إلى حالة الوفاة حين يدور الأفكار والأشخاص في فلك الأشياء"
– ماجد عرسان الكيلاني
هل يميل الإنسان لتأويل ما يحدث معه من أمورٍ، ميتافيزيقيّاً، بسبب طبيعة إنسانية ما فيه، أم أنّ ذلك يرجع للجهل النسبي الذي تورثه المجتمعات الرجعية لأجيالها؟ ما شغلني طويلاً رغم بساطة ظاهره، وما جعلني أفكّر بكتابة هذا المقال المتواضع هو تذكري لطفولتي وكذا مراقبتي لتصرّفات الأطفال وما يلفّ عالمهم من غموض وأسرار مظهرية لا يجدون لها تفسيرا في أغلب الأحيان. يحدث ذلك، إمّا عن عدم معرفة واستيعاب حقيقيان لأسباب حدوث ذلك علميا أو أحيانا تكون الأسباب مُفتعلة يحب الأطفال من خلالها إظهار أنّه هناك دائما قوى خفية غير طبيعية وأمور غريبة تقع، لا يوجد لها تفسير منطقي رغم أنّ بعضهم يدرك حقّ الإدراك أنّها أمور ذات تجلّيات علمية بحتة.
في الواقع، طريقة التفكير هذه، لا تقتصر على الأطفال فقط فهي تتطوّر مع الإنسان حتى يبلغ من العمر درجات معينة. كلمة –ميتافيزيقا- مشتقة من كلمة إغريقية Metata Physika وتعني ما بعد الطبيعة وكان أرسطو يسمّيها بالفلسفة الأولى أو علم اللاهوت تمييزا لها عن الفلسفة الثانية والتي هي العلم الطبيعي في نظره. انطلاقا من هنا، يمكننا أن نرى بأنّ العلم، حقيقة، انقسم منذ قديم العصور إلى طبيعي منطقي، وعلم آخر ارتبط بالا ملموس أو غير القابل للتفسير العلمي والاستنباط المعرفي. هذا نموذج مكبّر بل النموذج الأم الذي تُرى قبسات منه وشظايا ضئيلة تنعكس في مخيّلة كل منّا، تُرى وتُلمس في حياة الجميع وهذا أمر طبيعي قد يرقى بالطبيعة المادية في الإنسان لأنوار الطبيعة الروحية والهيام في سماء اللامعقول للتدبر ربما في جعله معقولا.
كلّما ابتعد الأفراد عن التفكير في علم ما بعد الطبيعة وكلّما ركّزوا على التفكير المادي البحت، أصيب المجتمع بفعل ذلك بالانهيار الحضاري |
هذا أيضا ما يخدم صحة المقولة التي ابتدأت بها الحديث، فالارتباط بما بعد الطبيعة يُبعدنا أو يُنقذنا من السقوط في شباك الدوران حول فلك الأشياء وبالتالي اكتساب التفكير المادي الذي يقصي الروح ويشتت الفكر المعنوي بل وينثره هباء مُستبعدا أي تأثير له وأي وجود حقيقي لماهيته وأسبابه وبعض نتائجه.
في الحقيقة، في تفسيرها لهذا الإشكال تختلف الفلسفة نوعا ما عن تفسير علم الاجتماع إياه. فبالنسبة للفلسفة التاريخية، حين يتركز تفكير الأشخاص حول الأشياء يؤدي ذلك لهلاك المجتمع وتفكك لبنات العلاقات الإنسانية بين أفراده استنادا لما قاله المفكر والمؤرخ الأردني عرسان الكيلاني أعلاه. فبالتالي، كلّما ابتعد الأفراد عن التفكير في علم ما بعد الطبيعة وكلّما ركّزوا على التفكير المادي البحت، أصيب المجتمع بفعل ذلك بالانهيار الحضاري وهذا أيضا ما أشار إليه تقريبا المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه -مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي- حيث ذكر بأنّ العالم الثقافي يتكوّن من: أشياء، أشخاص، وأفكار.
إذا طغى بند منها على الآخر تنشأ أزمة حقيقية. كما ركّز مالك بن نبي على فكرة طغيان عالم الأشياء الذي يجعل العالم يتقدّم كلّ يوم أكثر نحو عولمة مادية. بيّن ذلك محمد عبد العظيم علي في مقدمة كتاب -مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي- بأنّه: "في عالم اليوم الذي تسود في أغلب أرجائه الحضارة المادية التي تدور فيها الأفكار حول الأشياء وبينما العالم الإسلامي يمر بمرحلة ما بعد التحضر حيث تنزوي فيه الأفكار، وتتبدل الأفكار الأصيلة في عالمه الثقافي بأفكار مكتسبة غريبة عليه، تتشوه القيم الأخلاقية في الأشخاص وتقلب الروابط الاجتماعية… الخ".
أمّا الفيلسوف الألماني إيمانويل كان فقد اتخذ مسلكا آخر في تصنيفه لتطوّر المجتمع البشري والذي يخضع في نظره لقانون أسماه بقانون الحالات الثلاث. يتلخص هذا القانون في أنّ المجتمع خلال تطوّره ينقسم إلى ثلاث أقسام. إذ يبدأ بالمجتمع اللاهوتي وتكون فيه سيطرة رجال الدين على الحياة الاجتماعية والروحية، ومن ثم المجتمع الميتافيزيقي الذي يتسم عامة بالطابع الفلسفي، وينتهي أخيرا بالمجتمع المعرفي أو العقلي ويستند في تفسير هذا على عامل العقل والمعرفة لأنّ الأشخاص كانوا قد مرّوا خلال مُحاولاتهم المستمرة لفهم وتفسير العالم الذي يحيط بهم بذات الحالات الثلاث المتتابعة.
بالنسبة لكانط، فإنّ الميتافيزيقا تطرح أسئلة عديدة حول الحقيقة المطلقة للأشياء واعتقد كانط أنّه يمكن تهذيب الميتافيزيقا عن طريق تطبيق نظرية المعرفة عليها. من خلال الموازنة بين آراء وبحوث بعض النماذج من المؤرخين وعلماء الاجتماع والفلاسفة التي عرضت سابقا، يتضح لنا بأنّ الميتافيزيقا والمعرفة العلمية وجهان ثابتان لعملة واحدة عندما يتعلق الأمر بتفسير مظاهر المجتمع.. وجهان متكاملان، أي أنّ كل سبب أو تفسير منهما يكمّل الآخر سواء كانط تلك تكملة تصاعدية أو موازية.
يعني ذلك، أنّ أي محاولة لفصل ماهية وتأثير أحدهما عن الآخر يجعل الأمر برمته يتسم بالنقص أو الشذوذ عن الطبيعة البشرية الكونية لكن، في نفس السياق يعتبر كلاهما مكوّنا أساسيا شرط أن يفسر كل منهما الظواهر المختلفة في حدود ما يخصه وما يختص به من جوانب وتطلعات فكرية سواء كان ذلك بصفة مرحلية أو دائمة.
إذن، فالمشكلة ليست في طبيعة الإنسان التي تميل لتبني التفاسير الميتافيزيقية المجردة لميل فطري فيها، بل إنّ المشكلة تكمن في طغيان كفة ذلك على حساب كفة العلم والمعرفة والذي قد يكون سببه الأساسي التفكير السائد في المجتمعات الرجعية والذي يكون عامة بعيدا كل البعد عن المنطق العلمي المدروس. فما أجمل أن تتجمّل الفطرة البشرية بحلّة العلم وزينة المعرفة، وما أكمل أن يتعطر كل منهما بالطيب الروحي للميتافيزيقية الإنسانية في حدود ما لا يجبر العقل على اتخاذ هيئة الجماد. هنا، فقط، يمكن للإنسان أن يبلغ ما أسميه أنا "الكمال الاجتماعي" بكل مقاييسه العلمية والإنسانية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.