تزاحمت الأوجاعُ في صدرنا، باتتْ تهوي كنارٍ حامية تكوي القلب ومن ثم تتقِدُ في الأحشاء. بركانً دمر دواخلنا، لم يترك سوى هالةً مشوشة ونزيفٌ حاد في الذاكرة وخدشٌ في الروح وسرطان لم تستطيع براكين العالم أجمعها بإخماده، إنه سرطانُ الذكريات الذي حلَّ وبائِه وانتشرَ بأجسادنا بأشيائنا، بتلك الشوارع والأماكن باتَ من الصعبِ استئصاله.
في الثامنة ربيعاً من عمري وفي إحدى الجمعات النسائية الودّية الصباحية في منزلنا، حيث كنت اجهزُ نفسي للذهاب إلى المدرسة متذمرة خشيةً من جدولِ الضرب الذي طلب مني المعلم أن أحفظهُ للمرةِ الخامسة انتظرُ أمي لتضع مأكولاتي في الحقيبة، سمعتُ أطراف الحديث حيث كانت إحدى النسّوة تتكلم عن المصائب التي توالت كالكتائب على عائلتها ومنزلها في هذه السنة. حيثُ قالت لها الأُخرى بتنهيدةٍ مُشبعةٍ بالأوجاع "ما حدا بنام على جرح قديم" تلك الجملة التي بقيت عالقة في ذهني، لم أكن أعي في ذلكَ الوقت ماذا تعني، لكنني كنت أتوق لأن أكبُر وأفهم. كبرتُ يا خالة للحدِ الذي أدركتُ وتجرعتُ ما كنتي تعنيه في ذلك الوقت، أي وجعٍ ذاك الذي كان يكوي قلبُك؟
لا زلت أذكر عندما سالت دموع أمي بدون استئذان وعندما حملوهُ على النعشِ ولاح النورِ في الأكوان، وارتمى القلبُ حزناً لرؤيته على الأكتاف، ماذا جرى يا أبتي ففي الصباح الباكر كُنا نتبادل أخبار الاطمئنان |
في السادسةِ عشر ربيعاً من عمري، في بداية ربيع الثورة السورية اعتُقل أبي من قبل النظام الطاغي لندائه بالحُرية، كان أعظم شيء وأقسى قهرٍ يمر علينا طيلةُ حياتنا. بعد فترة وجيزة خرج من المعتقل أو يمكننا القول المسالخ البشرية، طرقت مسامعي تلك الجملة العالقة في ذهني، على أي جرحٍ جديد سنفيق؟ الأيام تركض والأحداث تصعب وهاجسُ الخوف يكبُر. بعد سنتين مضت من اعتقال أبي بُترت سبابتهُ في إحدى المعارك الشرسة، كانت تلك الصدمة الكبرى والضربُ الأليم كيف سيُكمل حياتِه بأربعةِ أصابع وكم سوف يئن قلبهِ من ألمِ الفراق، كتلةِ لحم صغيرة كانت وجعاً حطمَ قلوبنا جميعاً. بُتُّ أشعر بالخوف سننام على هذا الجرح يا الله فلا قوةٍ لنا على حمل الأكثر. بعد عدة أيام أزّت قذيفةٌ غادرة واختارت دائرة المؤامرة الصباحية في المدرسة ستةُ أطفال بعمرِ الورد راحوا ضحيتها، أما السابع فكان ابنَ أختي الذي بُترت ساقهُ وقلبنا في نفس الحين.
كان أمراً صعبٌ علينا استيعابه أو تقبُله أي قوةٍ يحتاج ليستطيع أن ينهض من جديد وأي شجاعةٍ سيمتلك لينخرط بالمجتمع القاسي وأي صلابةٍ نحتاج لنتمالك أنفُسنا أمامه، إنها الضربة الأقوى والوجع الأقسى كتلة اللحم قد كبُرت من إصبعٍ الى ساق ثم ماذا بعد وأي مرارةٍ سنتجرع؟! تأقلمنا على الوضع واعتدنا الوجع وازداد البتر في داخلنا، إننا في كلِ فقد يُبتر شيئاً داخلنا عنوةً عنا. أصبح البترُ شيءٌ طبيعي في سوريا والقذائف باتت تستلذُ بطعم أشلاء الاطفال والنسوة والشيوخ، تنهش أطرافِهم بنشوةِ الانتصار. أصبح ليس من الغريب أن ترى طفلاً مبتور الساقين أو الآخر مبتور اليد والقدم وغيره مشوه الجبين معور العين، هي لعنةُ الحرب التي وشِمت على وجوه كل السوريين.
في فجرِ أواخر شهر حزيران يومُ الاجتياح القاتل، هذه المرة الجرحُ كان في أسفلِ الرقبة أعلى الظهر. في نقطة الفناء عند الضربِ المباشر انطلقت قذيفةً غادرة قد ضربها الجندي ابنُ البلد الذي كان رافعاً شعار الأسد أو نحرق البلد وصفعت جدار بيتٍ مهدم في الجبهة الأخرى ليرتقي أبي شهيداً جميلاً في سبيل الوطن، تاركاً وراءَه شبانٌ اعتادوا على سماعِ كلماته التي تشدُ سواعدهم وتقوي عزيمَتهم، مودعاً دياراً وذاهباً الى خيرةِ الديار. هذا الجرحُ الذي لا تمحيه قسوة الأيام جرحِ الفقد والوداع والحرمان، أفقنا على جرحٍ أذاق قلوبنا من كؤوس المرارةِ لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي فارقنا به، نَقش في قلبي رؤى الأحزان.
لا زلت أذكر عندما سالت دموع أمي بدون استئذان وعندما حملوهُ على النعشِ ولاح النورِ في الأكوان، وارتمى القلبُ حزناً لرؤيته على الأكتاف، ماذا جرى يا أبتي ففي الصباح الباكر كُنا نتبادل أخبار الاطمئنان مالي أراك قد تركتنا وحدنا نحيا بلا روح. بلا خفقان لن ننام على أي جرحٍ قديم يا خالة فإننا أفقنا على وجعٍ مزق قلوبنا ماذا أقول وقد زَرع بمُهجتي أن المنيةِ حكمها رباني. حياتنا باتت تتأرجح بين الفقدِ والتهجير وتنهيدة الوجع أضحت هي الشهيق وفي كل زفرةٍ اللهم قوة أنينُ الألم لا تُغطيه طبولٌ تقرع، وجذور الوجع لا تنزعها هوج العواصف. إننا اعتدنا الألم ونحن لا نتعود على شيءٍ إلا إذا مات شيئاً داخلنا، لقد مات فينا الكثير حتى تعودنا على كل ما يجري حولنا، لكننا اعتدنا يا الله وأنا خائفة من هذا الاعتياد. لم يعد صوت المدافع يثير الخوفَ داخِلنا، لم تعد صور الجثثِ والأشلاء تُصيبنا بالهلع، لم نعد نبكي ونندبُ لموت كل هؤلاء نحن الذين كنا نبكي على قطةٍ جائعة، لم يعد لدينا شيء يبتزه الألم ولم يعد لدينا قلب لشيء ولتأتي الحياة كما تشاء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.