شعار قسم مدونات

التجرية القطرية بين التعاطف والموضوعية

blogs - التجربة القطرية

الخامس من يونيو 2017 يشكل نقطة إنعطاف حادة في مسيرة العلاقات السياسية في المنطقة سواء خليجيا أو عربيا أو دوليا. لكن هذه الإنعطافة لم تكن وليدة الساعة، بل حصيلة سنوات طويلة من الشد والجذب بين أطراف الأزمات. فبالرغم من التجانس المجتمعي والثقافي الهائل بين شعوب الخليج العربي، إلا أن اول رياح سياسية مفتعلة بين الحكومات الخليجية كانت كفيلة بتطاير الرماد والكشف عن اللهب المندثر تحتها.

   

كان المقصود بهذه الأزمة هو تحجيم وتهميش الدور الريادي الذي تلعبه قطر على الصعيدين الإقليمي والدولي وظنا من الدول التي أشعلت فتيل الأزمة ان قطر بلعبها هذا الدور تهدد المكانة التقليدية لهذه الدول ومكانتها لدى شعوبها خاصة أن ما أنجزته قطر خلال العشرين سنة الماضية في كافة المجالات داخليا وخارجيا وكسبها لعقول وقلوب كثير من الشعوب العربية والإسلامية لم يرق لبعض الأنظمة "والنخب" السياسية في المنطقة خاصة تلك التي تريد تنصيب نفسها "مشيخة" لكل الشعوب الخليجية والعربية!

 

المناوشات والمناكفات السياسية في أي نزاع أو أزمة هي وسائل مشروعة لكل الأطراف. وتمتاز هذه المناكفات بفترة صلاحية قصيرة ومساحة ضيقة جدا في ذاكرة الشعوب. لكن المضايقات أو ربما الحروب الاقتصادية والثقافية والاجتماعية تستمر آثارها السلبية لأجيال وتبقى عالقة في ذاكرة التاريخ.

إعلان

 

نبهت هذه الأزمة دولا أخرى بالمنطقة كالكويت وعمان، أنها هي الأخرى قد تتعرض لنفس التهديدات والضغوطات. وقد بدأ بالفعل يلوح في الأفق بعض الشرر المتطايرمن نفس اللهب متجها نحوه

خلال فترة بناء قطر الحديثة، طورت الدوحة استراتيجيات وطنية ضامنة لبناء دولة مؤسسات وللرفاه الاجتماعي وكذلك استراتيجة سياسة خارجية غير مألوفة للمنطقة تتمثل في أدوات شكلت في مجملها ما يعرف بالقوة الناعمة. وقد أثبتت الأزمة الحالية أن الجيل القيادي القطري الذي كان يُعدّ لإدارة هذه الأزمة (المتوقعة) والأدوات الناعمة المتوفرة له، كانت السبب الرئيس لتخطي قطر عقبة الحصار وتجاوز تبعاتها وبناء قدرات وطنية مستدامة والتوجه إلى تحالفات أكثر واقعية مبنية على التعامل بالمثل وفتح أسواق وخطوط إمداد جديدة.

 

وفي مسعاها للحفاظ على مكتسباتها في خضم هذه الأزمة تتعرض قطر لهجمات غير مسبوقة بطبيعتها ومعتادة في ضعف حججها وأثبتت أن القوة الناعمة أكثر إيلاما من القوة الخشنة. فالأولى وبمساعدة من إدارة دبلوماسية رشيقة، تنتصر بهدوء وبدون إهدار مقدرات الدولة وتكسب مواقف ومؤيدين جدد حتى أنها في بعض الحالات تحافظ على ماء وجه الخصم. بينما كلفة الثانية عالية وغير مضمونة النتائج وغالبا تغرق في ذات المستنقع الذي أرادت لخصمها أن يغرق فيه.

 

كما أن الدول التي تناصب قطر الخصومة نسيت أو تناست أن أبواب العالم المعلوماتية والمعرفية مفتوحة على مصراعيها خاصة أن مؤسسات البحث والدراسات تقتات على مصداقية دراساتها وأبحاثها ومصادرها. ونفس الشيء ينطبق على كبريات الصحف العالمية ووكالات الأنباء ذات المصداقية العالية ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية غير الحكومية. وكل هذه المؤسسات لعبت أدوارا حيوية وهامة في نقل وجهة النظر القطرية عالميا بشكل حيادي وموضوعي، بل وفي أكثر الحالات، تبنت موقف الدفاع عن قطر.

 

لكن في المقابل، نبهت هذه الأزمة دولا أخرى بالمنطقة كالكويت وعمان، أنها هي الأخرى قد تتعرض لنفس التهديدات والضغوطات. وقد بدأ بالفعل يلوح في الأفق بعض الشرر المتطايرمن نفس اللهب متجها نحوها. فالكويت التي قدمت نفسها كوسيط نزيه للأزمة الخليجية وكدولة حريصة على عدم تفكك مجلس التعاون الخليجي لم تسلم هي الأخرى من إتهامات التعاطف مع الموقف القطري. وعلى الفور بدأت الكويت، على سبيل المثال، بتفعيل وتسريع إتفاقيات دولية كانت راكدة ولعل اشهرها فرش طريق التنين الصيني بإتجاه الكويت بالحرير! ومن الممكن القول أن التحرك الكويتي الأخير جاء نتيجة ما شهدته الكويت من مواقف متعنتة من جاراتها الخليجيات حيال الأزمة مع قطر وكيف تعاملت قطر مع الأزمة وكذلك نتيجة حنكة دبلوماسية تشجب وترفض التدخل الإيراني في ملفات خليجية وعربية عديدة وبنفس الوقت تدعم وتشجع سياسة خارجية تلطف أجواء التوتر مع إيران من خلال الحوار واستكشاف فرص للتعاون الجماعي، بدلا من سياسة التخبط في كل إتجاه وتحقيق الفشل في كل قضية.

إعلان

 

التجربة القطرية استقطبت اهتمام دول ومراكز دراسات ودور أبحاث ومنظمات رسمية وغير رسمية وغيرها ليس فقط لدراسة الحالة القطرية ولكن أيضا لاستخدام التجربة كنموذج لدولة كلما اشتدت الضغوطات عليها وضاقت حلقات الحصار حولها وجدت مخارج جديدة وطرق مبتكرة للإنطلاق فوق المعوقات. كما أن التجربة حيّدت مواقف كانت تقليديا تقف في الصف المناهض لتطلعات قطر وشجعت دولا أخرى على تغيير إتجاهها نحو قضايا تدعمها أو تتعاطف معها قطر. بالإضافة إلى نجاح قطر باستخدام المنصات القانونية الدولية لكشف الانتهاكات التي تعرض لها المواطن القطري على الصعيد الإنساني وتعرضت لها الدولة ككل من جوانب أخرى، اقتصاديا وسياسيا وأمنيا.

 

لا أعتقد بأن قطر مهتمة بارتفاع قيمة أسهمها السياسة عالميا بقدر ما هي مهتمة بإعادة العمل العربي والخليجي المشترك إلى جادة الصواب. فمن يشكك بهذه الرغبة القطرية عليه أن يأخذ زمام المبادرة وسيجد أن قطر ستكون أول المرحبين

التجربة القطرية نبهت الإنسان القطري لمواطن الخلل في المنظومة الخليجية وكيفية تحديها وتجاوزها أو محاولة إصلاحها. فافتتاح مصنع أو تدشين مشروع جديد اصبح عرسا وطنيا. وتحقيق إنجاز عالمي لأي من المؤسسات القطرية يصبح الخبر الأكثر تداولا واحتفاءا بين القطريين وعلى مختلف المنصات الإعلامية وأي اتفاقيات دولية جديدة تعقدها قطر مع اي دولة سرعان ما يتناولها القطريون بالتحليل والدراسة لمعرفة كيف ستخدم كل أشكال الأمن الاستراتيجي للدولة. ومن أهم إفرازات التجربة القطرية ترشيد السلوك الاقتصادي بما يخدم الاقتصاد الوطني وتحديد معالم أي دور تلعبه أي مؤسسة قطرية بالتنسيق مع المؤسسات الأخرى بغرض التمكين وبناء قدرات وطنية متخصصة وتحديد أطر المسؤوليات وآليات المحاسبة والمسائلة وكل ذلك ساهم بشكل مؤثر في تعزيز مفهوم المواطنة والعلاقة التكاملية بين المواطنين والمقيمين والتي تمت الإشارة لها والإشادة بها من أعلى المستويات القيادية في الدولة ومن خلال أهم المنصات الدولية.

 

التعاطف والوقوف مع الموقف القطري لم يأت من فراغ. فمعظم الشعوب العربية تتمتع بثقافة سياسية اكتسبتها من تعايشها ومسايرتها لكوارث ونكبات ونكسات سياسية عديدة تعرضت لها عبر تاريخها، مما يمكنها من التمييز بين العدل والظلم، وبين المشروع والمحرّم وبين الأنظمة التي تخدم قضايا الأمة والأنظمة التي تعمل على هدم المكون العربي بكل تفاصيله أو الأنظمة التي تحاول إعادة تدوير مخلفات عصور الهيمنة والاستبداد والعنجهية وتقديمها للشعوب على أنها أساليب مبتكرة للحكم الرشيد.

إعلان

   

كان حريا بهذه الدول أن تأخذ التجربة القطرية على محمل الجد. فإن منعها كبريائها السياسي أن تستفيد من التجربة، كان الأولى أن يوصلها إلى قناعة أن ممارسات الحصار والمكائد السياسية وتجييش وسائل التواصل وشراء الولاءات ومحاولات تزييف الرأي العام المحلي والعالمي من خلال شركات علاقات عامة عملاقة هي أساليب منتهية الصلاحية لا تنطلي على الشعوب الواعية ولا تخدم مصالح هذه الدول بقدر ما تلحق بها الأذى. وبالتالي فإن استمرار الأزمة يزيد الضرر عليها ويفتح جبهات وفجوات متعددة للدخلاء والانتهازيين والابتزازيين من أطراف عربية وغير عربية، جماعية أو فردية لكنه بالتأكيد سيرفع من قيمة الأسهم السياسية لقطر.

 

لا أعتقد بأن قطر مهتمة بارتفاع قيمة أسهمها السياسة عالميا بقدر ما هي مهتمة بإعادة العمل العربي والخليجي المشترك إلى جادة الصواب. فمن يشكك بهذه الرغبة القطرية عليه أن يأخذ زمام المبادرة وسيجد أن قطر ستكون أول المرحبين والداعمين ومن خلفها شعوب عربية كثيرة ومن خلف كل هذه الشعوب، أنا!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان