التحالف الجديد الذي بدأت تتضح معالمه بين روسيا وتركيا وإيران سيحدث تغيرات جيوبولتيكية شرق أوسطية ويساهم في انكماش الدور والنفوذ الأمريكي في المنطقة. ومن إفرازاته أيضا سعي دول عربية هامة كالسعودية إلى الانضمام إلى التحالف التقليدي الأمريكي الإسرائيلي. العداء الوهمي بين إيران وإسرائيل يزيد من تعقيد المشهد السياسي ويساهم في إرباك السياسات الخارجية للسعودية ويستنزف مقدراتها الاقتصادية ويشتت تركيزها على ضرورة الإصلاح الداخلي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
فبينما تروج إسرائيل نفسها لبعض الأنظمة العربية "السنية المعتدلة" كحليف موثوق لها ضد محاولات التمدد الشيعي الإيراني، لا تقوم إسرائيل إلا بما ينسجم مع المخططات الإيرانية في المنطقة وبدعم ومصادقة من إدارة ترمب. فالتمدد الشيعي يكاد يحيط بإسرائيل من كل جانب بعد أن زرعت إيران وثبتت تابعيها وميليشياتها في لبنان وسوريا والعراق وهذا التمدد لا يواجه بأي معارضة حقيقية من إسرائيل.
فحزب الله اللبناني تم زراعته على حدود الكيان الصهيوني كحزب مقاومة وهمية ليحل محل المقاومة الفلسطينية الحقيقية التي أخرجت من لبنان عام 1982 وبعد ذلك ساعدت إسرائيل إيران بالمال والسلاح أثناء الحرب العراقية الإيرانية وحاليا تعمل إسرائيل على إبقاء الأسد في السلطة وبدعم مباشر من إيران وحزب الله.
من مبدأ المصالح المصيرية المشتركة، يتبلور حلف آخر بالمنطقة يتكون أعضاءه من عدو تقليدي للسعودية وهو إيران وشبه عدو تتهمه السعودية بأنه يسعى لسحب بساط المرجعية الإسلامية من تحت قدميها وهو تركيا |
حالة الإحماء السياسي التي تتدرب عليها السعودية استعدادا لسباق الجري نحو إسرائيل وهربا من المنافس "الديني" الذي تعتقد السعودية أنه يجري بالاتجاه المعاكس، هيأت تربة خصبة لحالة من الاستنزاف الأمريكي لثروات السعودية من خلال مبيعات الأسلحة والمشاريع السعودية غير الواقعية التي تدفع فواتيرها في واشنطن وبالمقابل تستخدم واشنطن فوائد هذه الفواتير لتغطية تكاليف دعمها للكيان الصهيوني، مما يبرهن على أن التحالف الإسرائيلي الإيراني المدعوم من أمريكا يستهدف بالدرجة الأولى استنزاف الدولة السعودية ومقدراتها.
السعودية تعتقد واهمة ان دخول الحلف الأمريكي الإسرائيلي سيوفر لها الحماية من إيران بالرغم من الكثير من البراهين التي تؤكد على وجود تفاهم أمريكي اسرائيلي إيراني سيضر أولا وقبل كل شيء بمصالح السعودية. أي اضطرابات أو مناوشات من باب الدعابة بين أمريكا وإيران ستسبب عدم استقرار في أسعار النفط، وخسائر اقتصادية فادحة للاقتصاد السعودي في حالة رفع سقف الإنتاج وهبوط الأسعار. كما أن أي قلاقل على الجبهة الشرقية الداخلية للسعودية قد تغذيها إيران بالإضافة إلى التوتر الحالي على الجبهة الجنوبية مع تكاليفه الباهظة والضغوطات الداخلية المطالبة بالإصلاح والتنمية وزيادة الرواتب وتخفيض نسبة البطالة وغيرها، جميعها ستتطلب من السعودية توفير النقد اللازم لتغطية كل هذه التكاليف.
أليست هذه وصفة جاهزة للانهيار والانتحار؟ هذا بالإضافة إلى الخسائر المعنوية الهائلة التي تتكبدها السعودية بسبب حصار قطر وتأييدها لما يعرف بصفقة القرن وما ينتج عنه من فقدان مكانتها الروحية لدى مئات الملايين من المسلمين حول العالم خاصة في ظل اتهام السعودية بتسييس الحج وما نتج عنه من بعض المطالبات الشعبية وشبه الرسمية بتدويل الحرمين.
في مقابل ذلك، ومن مبدأ المصالح المصيرية المشتركة، يتبلور حلف آخر في المنطقة يتكون أعضاءه من عدو تقليدي للسعودية وهو إيران وشبه عدو تتهمه السعودية بأنه يسعى لسحب بساط المرجعية الإسلامية من تحت قدميها وهو تركيا ودولة في حالة تنافر ومنافسة مع الحليف الأمريكي الرئيس للسعودية وهي روسيا.
ولكن الفرق أن كل عضو من أعضاء هذا الحلف ورغم اختلافاتهم السياسية في قضايا إقليمية وعالمية مختلفة يسعى إلى الحفاظ على مصالحه في المنطقة من خلال توطيد علاقات ثنائية أو ثلاثية ضمن التحالف وبما يخدم مصلحة كل طرف. فإيران كعدو حقيقي للسعودية تستخدم بروباغندا دعائية كاذبة وتدخل في حروب خطابية ضد أمريكا وإسرائيل لكي يستمر الوهم السعودي بأن التحالف مع أمريكا وإسرائيل ورغم تكاليفه الباهظة هو المخلص لها من شر العداء الإيراني.
فكما أسلفت سيكون التحالف الأمريكي الإسرائيلي الإيراني غير المعلن هو المستفيد الأكبر من استنزاف السعودية. فاقتصاديا تستطيع إيران البقاء مع تدني أسعار النفط أو عدم استقراره وحتى مع وجود عقوبات أمريكية وهمية لان تدفق نفطها وغازها وعلاقاتها التجارية ستستمر مع دول كبرى أخرى في أوروبا ومع تركيا وروسيا بالرغم من مسرحية الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي. بالإضافة إلى أن الخطاب الإيراني الرسمي المعادي لأمريكا وإسرائيل يساعد نظام الملالي في طهران على تعزيز الشرعية الداخلية.
تركيا، الطرف الآخر في التحالف، ستجني بعض من ثمار أفول نجم السعودية وتستثمر هذا التحالف لصالح مشاريعها وعلاقاتها في المنطقة برغم بعض التنازلات التي قدمتها. فمثلا تركيا الآن لا تمانع أن يكون الحل في سوريا حلا سلميا وأن يبقى الأسد في السلطة والانسحاب من بعض مناطق العمليات العسكرية للجيش التركي في الشمال السوري. وقد يفهم أن هذه التنازلات جاءت إرضاء للحليف الروسي وكنتيجة لعلاقاتها المتوترة مع بعض أعضاء حلف الناتو وفقدان الثقة بشركاء أوروبيين كثيرين.
وقد صرح الرئيس أردوغان في رده على دعوة ترمب بعدم استيراد النفط الإيراني بأن تركيا تتصرف وفقا لمصالحها وأن إيران شريك تجاري مهم لتركيا وأن تركيا ماضية في تعزيز علاقاتها العسكرية مع روسيا. وقد نجحت تركيا من خلال مواقفها المؤيدة للقضايا التي تتعاطف معها الشعوب العربية والإسلامية في استقطاب دول أخرى لكي تكون جزء من هذا التحالف الجديد.
ومن جهة أخرى، روسيا تريد الحفاظ على موطئ قدم في المنطقة من خلال الحفاظ على وجودها العسكري في سوريا ولضمان تدفق الغاز الروسي لتركيا ودول أخرى في المنطقة وتعزيز صادرات السلاح للمنطقة والقضاء على أي خطر قادم من الحركات الإسلامية المتطرفة خشية ان تنتقل العدوى إلى أوراسيا.
خريطة التحالفات في المنطقة تشير بانه حتى أطراف من التحالف الأمريكي الإسرائيلي السعودي أو التحالف الروسي التركي الإيراني قد تلتقي مصالحهم في قضية ما فيشكلون حلف تكتيكي يخدم ذات المصالح. فمثلا قد تتقاطع مصالح روسيا وإسرائيل بالملف السوري فيكون لهم موقف موحد. تماما كما يمكن أن تتفق المواقف الأمريكية والروسية حيال قضايا معينة. وهناك دول في المنطقة كالأردن مثلا اختارت ان تضع قدم في هذا التحالف وأخرى في ذلك حفاظا على مصالحها وحماية لأمنها ولكن في اللحظة التي تشعر هذه الدول ان مصالحها مهددة من تحالف ما، ستسارع إلى الانتقال كليا إلى التحالف المضاد.
ما يحكم طبيعة التحالفات هي المصالح والطرف الأكثر عزلة وتيه في هذين التحالفين الرئيسيين أو في أي تحالفات فرعية تكتيكية هي السعودية. فالسعودية كالطريدة التي تهرب باتجاه الصياد! فإلقاء نفسها في المستنقع الأمريكي الإسرائيلي سيزيد الضغوط عليها لإتباع سياسات هوجاء لا تخدم مصالحها بقدر ما تخدم مصالح أمريكا وإسرائيل وإيران ذاتها وتبني أسوار من عدم الثقة بينها وبين شركائها.
على الرياض أن تقتنع أن النفوذ الأمريكي في المنطقة يمر بحالة انكماش. فأمريكا نفسها تخسر حلفاء لها يوما بعد يوم، ومن المؤكد انها ستدخل في حروب تجارية خاسرة مع أوروبا والصين. أمريكا تمثل حالة جرب سياسي وأخلاقي معد، فمن البلاهة أن تحشر أي دولة نفسها مع أمريكا في مصعد واحد اتجاهه الوحيد هو الأسفل وعند الوصول ستجد إسرائيل في استقبالها!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.