هذه الطبيعية المؤمنة التي احتلّت قلب وعقل دوستويفسكي بدَت واضحة جليّة في رواياته وقصصه القصيرة. وأيضاً فيما كُتِب عنه من مقالات، وحتّى في مذكّرات زوجته وابنته. فقد كان دوستويفسكي مؤمناً صُلباً حتى الرّمق الأخير وهو يوصي زوجته بأن تتمسّك بالله وتثق به. ولكن، دائماً نجد ذلك البَون ما بين الظاهر والباطن. السَّطح والعُمق. ما يُقال وما لا يُقال. فإنَّ ما قيل عن دوستويفسكي – وما كتَبَ هو من روايات أيضاً – يُظهر بشكل كبير إيمانه. ولكنّ، ما لم يُقَل، إن نحنُ قرأنا ما بين السطور وتريّثنا فإن ما يبدو لنا كفيل بأن يزرع بذرة شكّ في قلوبنا من حقيقة إيمان دوستويفسكي أو من حقيقة موقفه الفكري بشكل عامّ من قضيّة الإيمان والشكّ.
لقد كان دوستويفسكي، في رأيي، إنساناً متعطّشاً للسلام الداخلي وللتصالح مع نفسه. كان متعطّشاً للإيمان، ولكن لم يُفارقه الشكّ، وبقي معه في صراع دائم |
الفيلسوف الوجوديّ الفرنسي (جزائري الأصل) ألبير كامو كان مُغرماً إلى حدّ ما بدوستويفسكي، وقد استمدّ منه الإلهام في شخصيّات رواياته ومسرحياته. وقد كان كامو مَأخوذاً جداً بشخصية إيفان كارامازف، تلك الشخصية الشكّاكة القريبة جداً من الإلحاد التي صنعها دوستويفسكي في روايته الأشهر: الأخوة كارامازوف. وقد أثارت هذه الشخصية بالتحديد شكاً في قلب كامو وغيره من النقّاد فلم يستطِع كامو إخفاؤه، إذ صرّح عنه في كِتابهِ: أسطورة سيزيف، حين قال: "لقد كتَبَ دوستويفسكي متحدثاً عن الأخوة كارامازوف يقول: (إن القضية الأهم التي أريد طرحها وتفكيكها في هذا الكتاب هي القضيّة التي عانيت في صراعي معها بشكل واعي وغير واعي طيلة حياتي، ألا وهو قضيّة وجود الله). وإنني أرى أنه من الصعب تصديق أنَّ رواية واحدة كانت كفيلة بأن تُحولّ معاناة العُمر إلى حقيقة جميلة وسعيدة!".
وفي ذات المجرى يصبّ رأي الكاتب والمترجم الفرنسي (من أصل روسي) بوريس شلوزر حين كتَب يقول بأنَّ دوستويفسكي في رواية الأخوة كارامازوف كان في الحقيقة إلى جانب إيفان الملحد وليس إلى جانب أليوشا المؤمن! ذلك أنَّ أدلة الإيمان التي سردَها دوستويفسكي على لسان أليوشا أخذت منه ثلاثة أشهر من الجُهد حتّى أتمّ كتابتها، بينما لم تأخذ منه أدلة النفي أكثر من ثلاثة أسابيع سريعة.
أيضاً من يقرأ رسائل دوستويفسكي المنشورة (والتي لم تُكتَب أصلاً لغرض نشرها) ربّما يتسلل شكّ يسير إلى قلبه حين يبحث فيما بين السطور. ففي بعض الرسائل قد يجِد القارىء أن دوستويفسكي يُضمر شيئاً ويخبّىء اعتقاداً ما مختلفاً عما أبداه. فمثلاً، في إحدى الرسائل التي وجّهها دوستويفسكي إلى صديقه فسيفولود سولوفيوف، كتَبَ يقول: "لو أنَّ الكثيرين من مشاهير النابهين مثل فولتير، رأوا أن يقولوا كلّ ما يؤمنون به، من دون مزاح ولا تلميح ولا تورية، لما حققوا، صدّقني، عشر معشار ما حققوه من نجاح وتأثير … الإنسان عموماً لا يحبّ الكلمة الأخيرة، ولا الفكرة المنطوقة"
هذا المقطع البسيط من الرسائل الخاصة قد يثير تساؤلات كثيرة. ماذا يقصد دوستويفسكي هُنا؟ هل هو الآن يتكلّم عن نفسه؟ ولماذا اختار فولتير بالتحديد؟ ما هُو موقف دوستويفسكي إذاً من الإيمان؟ هل علينا أن نصدّق ظاهر الأمر من روايات ومذكّرات فنرى دوستويفسكي مؤمناً صميماً؟ أم نصدّق باطن الأمر ونفتّش في الأعماق ونحلّل حتى نصِل ربّما إلى كَونِه شاكّا أو حتى ملحداً متخفياً غير مصرِّح بإلحاده أو شكّه حتى لا يصدم جمهوره؟
في رأيي، لا يمكننا اعتبار دوستويفسكي مُلحداً كما لمّح ألبير كامو ومن قبلِهِ شلوزر وغيرهم، أيضاً لا يمكننا، في رأيي، أن نعتبر دوستويفسكي مؤمناً أكيداً تماماً! ولكن، يمكننا أن نعتبر أنَّ دوستويفسكي مؤمنٌ وشاكٌّ في آن معاً. وهذا هو منبع عبقريته منقطعة النظير. وما دفعني لتبنّي مثل هذا الرأي هو دراسة متعمّقة نوعاً ما لرسائله الخاصّة، وأيضاً قراءة أعماله في ضوء هذه الرسائل – خاصّة رواية الأخوة كارامازوف.
ربّما عبّر دوستويفسكي عن هذا الصراع الذي يعيشه في رسالة مهمّة بعث بها عام 1854 إلى صديقته نتاليا فونفيزينا، يقول فيها: "عن نفسي أقول لكِ، إنني ابن عصري وزماني، ابن الشكوك وغياب الإيمان حتى الآن وربّما حتى اللحد، أنا أعرف ذلك! فما أشدّ العذابات الفظيعة التي كنت ولا أزال أتحمّلها ثمناً لتعطّشي إلى الإيمان الذي يزداد في روحي كلّما ازدادت الذرائع والحجج المضادّة"
هذا الموقف المتناقض الذي عاشه دوستويفسكي هو موقف إنساني بامتياز. فإنّ التأكد والإيمان المُطلق بشيء ما والنظر إلى أي أمر من نافذة واحدة، هو ضرب من الجمود واللاإنسانية. الشكّ والنسبيّة والاهتمام بالرأي والرأي الآخر دون طغيان أحدهما على الآخر، هي أهمّ مقاييس الفكر عند الإنسان، إن وُجدت كان الإنسان إنساناً، وإن غابت تحوّل هذا الإنسان إلى آلة صمّاء لا تُساهم بدفع عجلة التقدّم والحضارة شبراً إلى الأمام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.