رغم ويلات الحرب في بلادي وما حملته من قهر وظلم، إلا أنها كشفت غطاء لا مثيل له. غطاء استتر في ظله فكر طائفي وقمعي لا مثيل له في الكرة الأرضية.. تغلغل على مدى خمسين عاما في عروقنا فأصبحنا لا نميز بين الأسود والأبيض.. فلم نعرف إن شرقت شمس سوريا في العشر سنين الماضية أم هو حقا غروب كنا نغفله. الكثير منا يردد أننا لم نعرف الطائفية أبدا في سوريا.. لم يسألنا أحد يوما ما عن طائفته أو قوميته.. نعيش بأسمى مزايا العيش المشترك تحت سماء الوطن.
كنت قد سمعت هذه العبارات حتى هنا في ألمانيا ترددت كثيرا من سوريين يلومون الثورة وأول كلمات الحرية التي نطقنا بها. لكن الشمس لا يمكن إخفاؤها بإصبعين من أصابعين فهذه الحرب الطاحنة كشفت لي حلقة مفقودة لم أستطع حلها الا بعد خمسة عشر عاما.. كنت في التاسعة من عمري في صفوف المدارس الابتدائية كنا نجلس ثلاثة تلاميذ في مقعد واحد؛ كانت صديقتي على مدى تسع سنوات من الطائفة العلوية تجلس على يميني وعلى يساري صديقة من الطائفة الشيعية. لم أكن أعرف أبدا معنى سني علوي أو شيعي في وقتها قط. أقصى أحلامي في حينها عشر ليرات سورية أشتري بها بعض البسكوت والشوكولا وأحصل في آخر كل شهر على مرحى أو شهادة تفوق من المعلمة نتيجة علامة مميزة في امتحان أو مذاكرة شفهية لأكسب بعدها أيضا خمس وعشرين ليرة وأتمتع بها يومين كاملين أو حتى لأسبوع في بعض الأحيان. حياة طفوليه بكل الأحاسيس والمشاعر البريئة التي يفتقدها أطفالنا اليوم هذا.
أنا و(ش) و(ن) كنا نجلس سويا في الصف الثالث؛ مرة وفي درس الرياضة تشاجرتا (ش) و(ن) لكنني لا أذكر السبب للأسف. وبعد خروج (ن) من المكان قالت لي (ش) " لن نلعب معها مرة أخرى. (ن) من الطائفية الشيعية ونحن الاثنتان من الطائفة العلوية" لم أستوعب وقتها معنى الكلام اطلاقا. وظل في ذاكرتي هذا الكلام يومين. كلما رأيت (ن) أذكر الحديث واذكر الفرق بيننا الذي بينته لي (ش) رغم عدم فهمي واستيعابي للأمر. بعد يومين من الحادثة جلست مع والدتي وبعض الأقارب وكانت فكرة العلوية والشيعة لاتزال قيد التساؤل لدي. حتى طرحت بشكل مفاجئ سريع على والدتي السؤال كالتالي "ماما نحن علوية؟".
هذه الدماء اليوم ندفعها ثمنا لصمتنا.. لعل وعسى أن ينجلي هذا الليل الحالك ونبني مجددا نسيجا متجانسا يكون في المقدمة.. نعم في مقدمة السرب كما عهدنا سوريا مهد الحضارات والأديان |
لا أنسى أبدا علامات الاستغراب والتعجب في وجه الجميع في ذلك اليوم. لم تجبني والدتي الا بسؤال واحد" من قال لك هذا؟" وعلامات الغضب والتعجب التي تبديها امي قد أربكتني وجعلتني أعتقد أنني اقترفت ذنبا سأعاقب عليه فيما بعد. أجابني في وقتها أحد الحضور "لا نحن مو علويه بل سنية… لكن لا يجوز التحدث في هذه الأمور مرة تانية" طغى المكان بعد هذا صمت تام لكنني أعلم أن داخل كل شخص منهم الكثير والكثير من الكلام. أما أنا أصابني حالة من الحزن لأنني لم أكن علوية حسب اعتقاد صديقتي المقربة. وفي الوقت نفسه استفسار لم أستطع الإجابة عليه إلا في عام اندلاع أول شرارات الثورة السورية (لماذا كانت أمي غاضبة من سؤالي هذا؟) حقا ما قالته (ش) في يومها يختصر جميع تساؤلات الشعب السوري عن الأزمة والحرب والظلم والاستبداد على مدى سبع سنين حرب.. لقد كان موقف (ش)من صديقتنا (ن) رمز لسياسة حزب البعث منذ 50 عاما الى يومنا هذا مع شعب لا حيلة له.
وموقف أمي الغاضب والصمت الذي أحاط الأجواء كان سدا قويا لم أجرؤ بعده أن أسال أبدا. وهو حقيقة صمت الشعب بأكمله عن الظلم والطائفية الحقيقية التي ينعتوننا بها نحن. كنا ولا نزال نقبل الإهانات والاتهامات والشبهات جميعها بصمتنا هذا. واليوم أسمع هنا في ألمانيا أيضا البعض يردد عبارة " لم يكن لدينا طائفية قبل الحرب" أقول له نعم لم تعرف أنك تحت شعارات حزب البعث (وحدة حرية اشتراكية) تصفق لطائفيتهم التي غرسوها في حناجرنا فأصبحنا وأصبح أهلنا من قبلنا صم بكم وعمي أيضا. أوافقك الرأي وأقول نعم لم نكن نعرف طائفية أو لنعبر بشكل منطقي أكثر لم نكن نسعى الا للعيش المشترك مع الأديان والطوائف الاخرى فوق أرض واحدة يسودها السلام والاخاء وتبقى كما عهدها العالم من قبل سوريا أرض مر فيها ألوان وأطياف جعلتها لوحة فسيفسائية على مر عصور سابقه.
ولا أرغب اليوم إلا بذكر شخص اسمه فارس الخوري كان رئيس وزراء أسبق في عهد شكري القوتلي. استلم مناصب عدة إلا أن المنصب الذي أوقفني حقا هو وزارة الأوقاف الإسلامية رغم أنه شخص يدين المسيحية. كيف لشخص مسيحي أن يستلم منصب كهذا وبموافقه الجميع؟ وعندما اعترض البعض خرج نائب الكتلة الإسلامية في المجلس آنذاك عبد الحميد طباع ليتصدى للمعترضين قائلا: إننا نؤّمن فارس الخوري على أوقافنا أكثر مما نؤمن أنفسنا. أي انسجام كانت عليه بلادنا؟ وكانت إحدى عباراته عن الإسلام: "يمكن تطبيق الإسلام كنظام دون الحاجة للإفصاح عنه أنه الإسلام".
التفاصيل كثيره والتاريخ هو المصدر الوحيد الذي يثبت لنا حقيقة الأشياء وجوهرها.. لا نستطيع إنكار الماضي ولا تجاهل الواقع.. هذه الدماء اليوم ندفعها ثمنا لصمتنا.. لعل وعسى أن ينجلي هذا الليل الحالك ونبني مجددا نسيجا متجانسا يكون في المقدمة.. نعم في مقدمة السرب كما عهدنا سوريا مهد الحضارات والأديان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.