عزيزي القارئ،
لنعِ الضوء يجب أن نجرّب الظلام، لنستشعر الصّحة يجب أن نمرض، لنفهم البرودة علينا أن نحسّ الحرارة.. سمّيت هذه العملية بالتجربة ولقد اتُّفق عليها من قبل العلماء والوعّاظ. ماذا لو كان هناك شخصٌ مصابٌ بالعمى لكنّه مقتنعٌ أنه يبصر؟ ماذا لو كان هناك سجينٌ في غرفةٍ لكنّه مقتنعٌ ومؤمنٌ أنّه حر؟ ماذا لو كان هناك مريضٌ يظنّ أنه معافى بل وأن الجميع يشعر ما يشعر؟ ماذا لو ظنّ شخصٌ أنه يعيش حياة شخصٍ آخر؟ هذه الحالات تُشخّص بالتّوهم أو (Anosognosia) وهو نوعٌ من الأمراض النفسية والعقلية بحدّ قول الأطباء.
لكن ماذا لو..
كان المجتمع كلّه يعاني من التوهّم؟ ماذا لو أنّ المجتمع بغالبه يظن أنه حرٌّ ومنتصرٌ ويعيش في دولةٍ متطورةٍ تحارب الفقر، ودائمةٍ في التنمية والنمو وو.. إلى آخره، وهي ليست إلا نقيض ذلك كله فهي الأشدّ فقراً وقهراً وظلماً والأكثر فساداً.. هذا ما يسمى بالدول الديكتاتورية والجمهوريات القمعية على توصيف كاتبنا "جورج أوريل".
كلّ صفحة في رواية 1984 عبارة عن حبةٍ من مسببات الاكتئاب، كل صفحةٍ من صفحاتها تمثّل جزءاً من الماضي التعيس والحاضر الأتعس، إنها تُوقظ فيك كلّ خليةٍ وتُقشعر فيك كلّ شعرةٍ |
إذا أحببت عزيزي القارئ أن تعيش هذه الحالات جميعها، وأن تستشعر عمق جراحنا المشتركة، فإنّي لك من الناصحين، أن هاتين الروايتين اللتين اخترتهما لك تمثّلان ماضينا القريب بكلّ تفاصيله وحاضرنا المؤلم بكلّ معاناته وأخاف أن تمثّلا مستقبلنا، لكاتبهما الروائيّ الإنجليزيّ الساخر "جورج أوريل" المعارض للأنظمة الشموليّة والحكومات القمعية.
لقد اخترت هاتين الروايتين لإيماني أنّ الحريّة والعدالة يجب أن تعلّم وتغرس، وأنّ الظلم والاستبداد يجب أن يُدرّس ويُشرح عنه ويُنفّر منه، إنني أشارف على الثلاثين وتدرجت في جميع مراحل الدراسة حتى التخرج من الجامعة ولم أدرس يوماً عن الحرية ولم يُشرح لي حقوقي كإنسان والمثير للسخرية أكثر أنني لم ألقّن عن الاستبداد وأنواعه، طرقه، أساليبه وتطبيقاته.
إنّ الروايتين صورةٌ مبسّطةٌ لفهم سيكولوجيّة الأنظمة وتطبيقٌ عمليٌّ لكتاب "سيكولوجيّة الجماهير" الذي سأتناوله لاحقاً.
تبدأ الرواية بقيام حيوانات المزرعة بثورةٍ ضدّ الظالم (الإنسان) في سبيل الحريّة والكرامة، ثم تدور أحداثها حول قيام هذه الحيوانات بتأسيس جمهوريتها الحرة والعادلة. عظمة هذه الرواية هي تداخل الحالات وتوصيف ماذا يحدث إذا كان الرئيس خنزيراً أو الخنزير رئيساً، وعندما يصبح الشعب قطيعاً والقطيع شعباً، إنها تُشعرك بتداخلٍ عجيبٍ بين سلوكيات الشخصيات والوظائف. وعموم الرواية يتحدّث عن السلوك الفرديّ والجماعيّ للمجتمع، وطرق سياسة القطيع. "جميع الحيوانات متساوية، لكنّ بعضها أكثر مساواة من غيرها".
ستتفاجأ عزيزي القارئ عندما تجد أن هذه الرواية تصف مرحلةً قريبةً جداً من حاضرنا وتصف لك بدقة أحداثاً عايشتها أنا وأنت، وكيف تصرفت النخب والإعلام، ستصل لمرحلةٍ تظنّ أن الرواية كُتبت حديثاً، وتكمن عظمتها أيضاً أنها ستكشف لك سرعة فقدان الذاكرة لدى الشعوب.
يمكننا مجازيّاً القول أنُها الجزء الثاني من رواية مزرعة الحيوان فقط من ناحية المضمون، حيث أنها تصف سلوك الدولة، النظام القمعي والقائد الخالد(الأخ الكبير)؛ وتوضّح كيف يبني النظام القمعيّ أركانه ومنطلقاته الفلسفيّة وكيفيّة التّطبيق.
"الحرب هي السّلام،
الحريّة هي العبوديّة،
الجهل هو القوّة"
وتدور أحداث الرواية في مدينة لندن التي تقع تحت حكم الحزب المتحكّم بكل شيء بقيادة "الأخ الكبير" وتظهر كيف تقوم الدول ومؤسساتها بقمع الشعب بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر وماهي عاقبة من أراد الخروج عن القطيع.
هذه الرواية الخالدة الصادمة جداً لكل قارئ لما تحمله من معانٍ وتوصيفات للسلطات الظالمة والقمعية، كلّ صفحة فيها عبارة عن حبةٍ من مسببات الاكتئاب، كل صفحةٍ من صفحاتها تمثّل جزءاً من الماضي التعيس والحاضر الأتعس، إنها تُوقظ فيك كلّ خليةٍ وتُقشعر فيك كلّ شعرةٍ، وتستحث فيك حبك للحريّة وكسر أغلال العبوديّة.
(الحريّة والسجن، الحب والكره، الولاء والخيانة) مصطلحات ستغيّر تعريفها في قرارة نفسك.
ختاماً.. لأنّ الحريّة لا تتجزّأ والدكتاتوريّة متشابهة في كلّ وقتٍ وحين، ولأنّنا ننتمي إلى طبقة المقهورين والشعوب الثائرة حديثاً فإنني أوصيكم بتعلّم الحريّة وتعليمها، وفهم الظّلم وأدواته، فليس من حقّنا أن نعيد أخطاء الماضي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.