راهَنَ (بن غوريون) سابقًا على وطنيتِنا حتى قَبلَ أن نَجيءَ إلى هذه الدنيا عندما قال: "الكبار يموتون والصغار ينسون"، لم يَكُن يعلم أنَّنا سنرضع حُبّ فلسطينَ مخلوطًا بحليبِ أمهاتِنا، كيفَ لنا أن ننسى يا بن غوريون! ونحنُ من استَمع إلى حكاياتِ أجدادنا كيف بنوا منازلَهم وحرثوا أرضَهم وزرعوها، استمعنا كيف جَنوا ثمارَ أرضِنا المباركة، كيف صلّوا في الأقصى وأكلوا من كعكِ القدسِ الخالد، وصفوا لنا كيف تبدوان كنيستا القيامةِ والمهد، وكيف كانوا يصطادون السمكَ في يافا وغزة وعكّا!
ثم كيف كانت النكبة وطريقُ اللجوءِ والحياة في مخيمات الأونوروا، نحنُ الذين لم نرى فلسطينَ يومًا إلا أنَنا شعرنا بِها تسري في دمائِنا نشبهُها وتُشبِهنا ترَونَها في ملامِحِنا، نحنُ الذين حفِظنا قرى الخليل وأزقةِ البلدةِ القديمة في القدس، حفِظنا الحواري والبوائِك وأبوابِ الأقصى، حفِظنا قرى نابلس ومناطق جنين حفِظنا أسماء المخيماتِ والسجون، حفِظنا أسماء الشهداء والأسرى حفظنا عملياتِ المقاومة وعدد القتلى، وحفظنا أيضا عدد المرات التي خذلنا فيها العرب "إخوَتُنا".
كثرٌ من قالوا إنّ الفلسطيني هو من باعَ أرضَه.. ولهم أقول اتركوا الفلسطيني وشأنه وستَتَحرّرُ فلسطين في غضونِ أيام، أبعدوا أياديكُم النجسة عن القضيّة ستُحَل، اسحَبوا أياديكُم من يد الاحتلال ونحنُ قادرونَ على التكفُّلِ بالباقي، فقط احبِسوا ملياراتِكُم ونفطكم عن العدو وقِفوا جانبًا، ما ينقُصُنا ليسَ المال أو السلاح أو العدد ما ينقصُنا هو قيادةٌ عربيةٌ مسلمةٌ تحتَكِمُ لشرعِ اللهِ وسُنّةِ نبيِّه، تؤمِنُ بآية: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وتؤمن ب "وعد الآخرة" الذي سنتبر فيه ما علوا تتبيرا، تؤمنُ أنَّ الجهادَ في فلسطين فرضُ عَين وأنَ العمالةَ معَ الاحتلالِ مَرَدُّها جهنمُ وبِئسَ المصير.
لا نَنسى في هذا السياق العملاء الكبار في فلسطين! حتمًا سنوفيهِم حقَّهُم إذا فُتِحَت لنا الأبواب وتَقابَلنا معَهم يومًا..! فهم لا يَقِلّون إجرامًا عن العربيِّ الذي يضخُّ ملياراته لدعمِ ذخيرةِ العدوِّ وطائراتِه ثم يخرجُ عَلَينا مُمَجِّدًا للسّلامِ وحُبِّ الخيرِ لشعوبِ الأرض.. مئة وواحد عام، ولا تزالُ فلسطين متجذرةً في شرايينِنا وأعماقِنا. نعم، لم نَذُق برتقالَ بياراتِ يافا يومًا أو عنبَ كرومِ الخليل أو سمك شواطئِ غزة أو حتى الكنافة في أزقّة نابلس، لكنّنا ذُقنا مرارةَ اللجوء مرارةَ الغربة ورؤيةِ قدسَنا وأرضَنا وخيراتِنا في الصُّور، ذُقنا معنى أن تُعايَرَ بسكناكَ في المخيَّم أن تُلَقَّب بالبَلجيكي وتُعاير بـ "الملوخية" أحيانًا…!
أن تنتمِيَ لوطنٍ لا ينتمي لك، أن لا توظَّف في وظيفةٍ ما فقط لأنَّكَ لا تنتمي لعشيرةٍ أصيلةٍ متجذِّرةِ في البلدِ الذي أنتَ فيه لا تتعدى كونَكَ لاجِئٌ وستُغادِرُ يومًا حتى وإن حملتَ الجنسية ..! هذا في أحسنِ الأحوال، أمّا إن كنتَ لاجئًا في بلدٍ يعامِلُكَ كأنَّكَ وباءٌ فتّاكٌ ويبني حولَك الأسوارَ الشاهقةَ ليفصِلَكَ عن شعبِهِ فتِلكَ مصيبةٌ أكبر وقصةٌ أُخرى أكثرُ مرارةً من مفهومِ اللجوءِ ذاتِه…!
يومُ الأرض – ذكرى النَّكبة – ذكرى النَّكسة – وعدُ بلفور – … وتتوالى الأيامُ لتذكِّرَنا لحظةً بلحظة أنَّ لنا وراءَ الجبالِ أرضٌ تنتظرُنا ولن ينصُرَها غيرنا، حتمًا لن ينصرَها من يظُنُّ أنَّنا من باعَها..! ضِمنًا فهو ليسَ مسؤولًا عن أخطائِنا وإن كانَ هو المُخطئُ في الأصل، ولَن يحرِّرَ القدس شاتمُ فاتِحِها وكاتبُ عُهدَتِها، لن يحرِّر القدس إلا مَن يشعرُ فعلًا أنَّ القدسَ هي جُزءٌ من روحِهِ هي قطعةٌ لا تنفَصِلُ عن فؤادِهِ وإن كانَ في الأرجنتين أو رُبَّما في عمّان المسافات لا تعني شيئًا، من يشعرُ أنَّ للقدسِ الجزء الأكبر في حياتِه الأكاديميةِ والعملية من يعيشُ لأجلِ القدسِ ويؤمِنُ أنَّ الأقصى عقيدة، يؤمِنُ أنَّ القيامةَ والمهد لا تقلّانِ أهمية عن المسجد المرواني وقُبة الصخرة داخل سورِ الأقصى هو فقط القادرُ على تحريرِ هذه الأرض المباركة.
لكلِّ من يرى في المصالحةِ حلًا أجيبُه: إن كانت المصالحة ستُؤَدّي إلى التنازُلِ عن حقِّ المقاومة وإلى رفعِ مستوى التنسيقِ الأمنيّ مع المُحتَل الصهيونيْ وفَتحِ كامل فلسطين أمامَ عنجهيَّتِهِ وظُلمهِ فيا حبَّذا الانقسام؛ لأَنَّ مفهومَ الانقسامِ في هذهِ الحالة هو الفارِقُ بينَ الحَقِّ والباطل، بين العمالة والمقاومة، بين الذُّلِّ والأنفةِ لصاحبِ الأرضِ والحق، بين أن تكونَ صاحبَ كلمةٍ قويّةٍ في وجهِ الاحتلال وبين أن تكونَ خادِمَهُ الحقير…!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.