بدأ الفكر العربي في فجر النهضة العربية الحديثة يبحث عن معايير جديدة من أجل بناء المدينة الإسلامية الحديثة تستطيع أن تجاور المدينة الغربية التي كانت سببا من أسباب يقظة الشرق الإسلامي من سباته الذي بدأ في عصر الانحطاط الفكري والثقافي للحضارة الإسلامية مع سقوط بغداد على يد فرسان المغول بقيادة هولاكو بعد أن اغتنت الدولة الإسلامية بكل أسباب التقدم والازدهار في أوج عصورها بدءًا من القرن الهجري الأول.
فاستيقظ الشرق الإسلامي في القرن التاسع عشر مع جماعة من دعاة التنوير والتجديد والإصلاح بدعوة جديدة تحث شباب الأمة على الوقوف في وجه المحتل الأجنبي الغازي للأمة والمحل لدمائها، تلك الغزوات التي بدأت مع دوي مدافع نابليون بونبارت الفرنسي، إمبراطورها العظيم، فشعر هؤلاء الدعاة بنوع من الفشل واليأس تعددت أسبابه وبرزت نتائجه جلية واضحة كأشد ما يكون الوضوح، فها هي الأمة من شرقها إلى مغربها قد سقطت تحت نير المستعمر وها هي الخلافة العثمانية أو الأصح الرجل العجوز منهمكة تترصد ساعة الوداع بعدما تسلط عليها الغرب محاولا تمزيق جسدها بالمؤامرات من الداخل والخارج، وهي الدولة العظيمة التي استعبدها العرب طوال مدة حكمها شديدة التعصب لقوميتها التركية شديدة البلاء على العرب وعصابيتهم.
فكان لا بد من البحث عن الجواب الشافي عن السبب أو الأسباب، سؤال نحن وهم، سؤال النهضة الكبير الذين لم ينعم عليه الله سبحانه بالداء الكافي إلى الوقت الراهن والأمة أشد وهنا مما كانت، وأعدائها أشد عليها عذابا ما يكون العذاب، فنطلق الجواب على وجهين اثنين متنافرين متخاصمين، الأول.. فتح عينه على حضارة الغرب مبهرا بما وصل إليه من علم وحضارة وصناعة، ملم بلغاته وفنونه عارفا بأسبابه وأخلاقه، فإذا نظر إلى أمته ووطنه رأى الماضي ورأى الشيء الغريب عنه، لا يصلح له بأي حال إلا أن يكون تابعا للغرب، ناعما عليه بأسباب نعيمه وحضارته وهؤلاء هم دعاة التغريب فهم الغرباء عن الأهل والوطن لا يعرفون من حاله شيء.
وفريق ثاني كان قريبا جدا من قلوب الشباب والعامة فهم أيضا دعاة مجددون مصلحون لكن بالتمرد على التقليدي والبالي يقولون بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان فيه ما فيه من أسباب التقدم وبناء المدينة الحديثة مثل مدينة الغرب، فكان لهؤلاء أعداء في الداخل والخارج على عكس دعاة التغريب الذين كان أعدائهم في الداخل وأصدقائهم في الخارج، أما هؤلاء فأعدائهم في الداخل هم أعداء التجديد لا يقبلون به ولا يرضون بأسبابه، وأعدائهم في الخارج لا يريدون أن تجد دعوتهم طريقا إلى قلوب الشباب لما فيه خطر على سياسة المستعمر أو سياسة صديق المستعمر.
فكان الصراع صراعا بين القديم والجديد بين قديم ينبع من حكمة الأسلاف وظواهر النصوص، لم يقف عليها بعد شروط العقل له، حماة كثيرون في الأزهر، ومناهجه التعليمية من القرون الوسطى، والجديد القادم من الغرب الذي لا يجد له بين أنصار الماضي ملجأ ولا دفأ، يبحث له عن مكان بين قلوب المجددين فهم مرحبون مجتهدون في الشرع لترحيب بهذا الضيف الوارد من البحر المتوسط، أما مكانه بين دعاة التغريب فهو أكثر أمنا وأمنا، ولما لا وهو قادم من الغرب مقبول بلا تمحيص وإلا تحقيق لما فيه من بلاء على القيم والنظم الاجتماعية والثقافية للمشرق العربي. فها هو طه حسين يطلب من الخديوي إسماعيل أن يلحق مصر بأوروبا بما في ذلك من النعيم والخير لها والأهل البلد وها هو أديب إسحاق يأتي باقتراح في الكثير من الخير ويطلب أن يدرس تاريخ الثورة الفرنسية في مناهج التعليم.
وكل هؤلاء نبعوا التنوير والإصلاح في المشرق من دعوة رجل واحد كان هو الأول صاحب المشروع الفكري الأول الذي ألهم دعوة من بعده من الدعاة صاحب عقل ذكي ونافد في حقائق الأشياء وصاحب فلسفة في الحكم وبناء المدينة الإسلامية الحديثة كان بلا وطن فهو أصله أفغاني ولد وتربا في بلاد فارس وعاش أخر سنوات حياته في مصر وتوفاه الأجل في إسطنبول عندما وضعه الخليفة عبد الحميد في القفص الذهبي فهو الفقيه العالم بأمور الفقه والشرق وأحوال البلاد العربية وصاحب نظرة وبصيرة لبلاد الغرب فهو المسافر والمتجول في ديارها صحبة طالبه النجيب الذكي ونشرا في أرجائها مجلة العروة الوثقي.
فالأول هو فيلسوف الشرق وموقظه السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني والثاني هو الأستاذ والإمام في أحد أعمدة الأزهر الشريف وحوله جماعة من الزهور تفتحت وأنعمت على مصر والعالم العربي بربيع من الدعاة إلى بناء الدولة الإسلامية الحديثة هو الشيخ المصلح المجدد الأمام محمد عبده. يأتي الحديث عن الأول بعد هذه المقدمة القصيرة والتي بعدها مقدمات عن الزمان والمكان قبل الحديث عن المشروع الكبير المعالم للأفغاني.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.