التجربة الأربكانية بداية والأردوغانية اليوم هي نموذج يستحق أن يحتذى من كل مسلمي العالم، فهو نموذج ملتزم دينيا وضليع في الوقت نفسه في أمور السياسة وهذا ما لم نره في التجارب المسكينة التي رأيناها في عدة بلدان عربية بعد الربيع العربي خصوصا، والتي كانت تظنّ أن إخلاصها ونبلَ قضاياها سيكفيها لتدوم، لكنها لم تكن تعلم أن الإخلاص وحده لا يكفي إلا إذا اقترن بالدهاء، فالحُكم خصوصا والحياة عموما تحتاج إلى الدهاء والسياسة لكي يتمكن المرء من أن يعيشها وينجح فيها، فنحن لسنا في عالم مثالي ولسنا في مدن فاضلة كي نكتفي بصدقنا وقيمنا.
بإجراء مقارنة بين الأتراك والعرب؛ نجد أن العرب معذورون كشعوب على جهلهم السياسي، فهم لم يغيّبوا السياسةَ عن حياتهم قاصدين بل كان هناك تغييب ممنهج من الحكومات للسياسة في حياة العامة |
ومن أجمل الأدلة على أن الإخلاص والصدق لا يكفيان لوحدهما قول الدكتور ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻣﺤﻤﻮﺩ ﺭﺣﻤﻪ ﺍﻟﻠﻪ في ﻛﺘﺎبه "ﺣﻮﺍﺭ ﻣﻊ ﺻﺪﻳﻘﻲ ﺍﻟﻤﻠﺤﺪ": ﺇﺫﺍ ﻧﺰﻝ ﻣﺆﻣﻦ ﻭﻛﺎﻓﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﺤﺮ.. ﻓﻼ ﻳﻨﺠﻮ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺗﻌﻠﻢ ﺍﻟﺴﺒﺎﺣﺔ .. ﻓﺎﻟﻠﻪ ﻻ ﻳﺤﺎبي ﺍﻟﺠﻬﻼﺀ .. ﻓﺎﻟﻤﺴﻠﻢ ﺍﻟﺠﺎﻫﻞ ﺳﻴﻐﺮﻕ ﻭﺍﻟﻜﺎﻓﺮ ﺍﻟﻤﺘﻌﻠﻢ ﺳﻴﻨﺠﻮ. ولو كان الإخلاص والصدق يكفيان لوحدهما لكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من اعتمد عليهما وأهمل ما عداهما وهو النبي المرسل المؤيد بالآيات والمعجزات، وهو الذي تدرّج في دعوته وعمل بسياسة وحكمة ابتداء من مواقفه المدروسة والذكية أثناء دعوته السرية واعتماده على الكتمان الذي هو جوهر السياسة ولبّها، مرورا بمواقفه الذكية واستشارته لأصحابه والأخذ بالشدة أحيانا والحلم أحيانا أخرى حسب مايستدعي الموقف وكسب قلوب المشركين وودهم حتى بعد أن ضعفت شوكتهم.
وبإجراء مقارنة بين الأتراك والعرب؛ نجد أن العرب معذورون كشعوب على جهلهم السياسي، فهم لم يغيّبوا السياسةَ عن حياتهم قاصدين؛ بل كان هناك تغييب ممنهج من الحكومات للسياسة في حياة العامة وذلك عن طريق اشغالهم بالرغيف وإيهامهم بأن ﺍﻟﺪﻳﻦ والسياسة لايجتمعان، فالدين ﻏﺎﻳﺘﻪ ﺍﻵﺧﺮﺓ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻏﺎﻳﺘﻬﺎ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻓﻴﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻳُﺘﺮﻙ ﺍﻟﺪّﻳﻦ ﻷﻫﻠﻪ ﻭﺗﺘﺮﻙ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻷﻫﻠﻬﺎ، ذلك ليس صحيحا طبعا، وما كانت الغاية منه إلا تجهيل الناس وحجبهم عما يدور حولهم، فليس هناك رجال للدين ورجال للسياسة؛ بل ينبغي على الجميع أن يتبحروا في دينهم وسياستهم في الآن ذاته.
ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﻧﻴﻮﻥ من العرب فهم يعتبرون ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺪِّﻳﻦ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻋﻼﻗﺔ ﺗﻀﺎﺩ ﻭﺗﺼﺎﺩﻡ، ﻭﺃﻥ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺷﻲﺀ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺧﺼﻢ ﻟﻪ ﻭﺃﻧﻬﻤﺎ ﻻ ﻳﻠﺘﻘﻴﺎﻥ، وهذا التفكير مغلوط ولايثمر أيضا؛ بل الأمر الحقيقي والأكيد هو أن من ﺣﻖ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻪ ﺩﻭﻟﺔ ﻷﻥ ﻫﺬﻩ ﻫﻲ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﺪﻳﻦ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﻳُﻘﺮ ﺑﻬﺬﺍ، إذ لم ﻳﻌﺮﻑ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺩﻳﻨﺎ ﺑﻼ ﺩﻭﻟﺔ ﻭﻻ ﺩﻭﻟﺔ ﺑﻼ ﺩﻳﻦ، ودولة الخلافة الحقيقية التي يطمح إليها كل مسلم ستكون لنا يوما إذا ما أعملنا عقولنا وأعطينا السياسة حقها وأردفنا غيرتنا على ديننا بوعي سياسي يمكنّنا من أن نعود كما كنا يوما قادة للأمم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.